منتجات قانون جاستا وتداعياته
27 ذو الحجه 1437
أمير سعيد

عاد الأمير..
كثيرون في الخليج العربي كانوا ممتنين جداً للقوات الأمريكية التي انطلقت من السعودية لإخراج قوات صدام حسين من الكويت قبل ربع قرن، حينها بلغت شعبية الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب عنان السماء في دول الخليج؛ فلقد عادت الأسرة الحاكمة الكويتية إلى سدة الحكم بعد أن أزيحت لشهور.. في الكويت، رحب معظم الشعب الكويتي بالتدخل الأمريكي، بدرجة أقل، كان كثير من أبناء السعودية يشاطرونهم نفس التأييد لهذه الخطوة.

بعد كل هذه السنين، شارف رصيد الولايات المتحدة لدى الشعب السعودي على النفاد، فالقوة الكبرى في العالم بدأت تنقل ذاتها في نظر هؤلاء من خانة الأصدقاء إلى الأعداء بعد صدور قانون جاستا.

 

لم تنقل الولايات المتحدة نفسها من خانة إلى أخرى في الواقع، بل انتقلت من نقطة إلى أخرى في استراتيجيتها التي تهدف إلى إضعاف العالم الإسلامي، والتي يرصد القرآن هدفها مع كل أترابها على مر التاريخ  بقوله تعالى: "حتى تتبع ملتهم".

 

 
صدر القانون أخيراً
، وإذ لم يكن بالضرورة متوقعاً كحلقة من حلقات الهيمنة الأمريكية على العالم الإسلامي؛ فإن روحه كانت متوقعة، فلم يكن إلا البسطاء وحدهم الذين ظنوا أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لا يضعون أعينهم على الأموال الخليجية المودعة لديهم منذ استخراج أول قطرة من النفط قبل 80 عاماً، وحتى في الأحواز العربية قبل ذلك باثني عشر عاماً. فلقد كان الغرب حريصاً على أن يظل جزء من أموال النفط محفوظاً لديه طوال هذه السنين، للإفادة من ريعها من جهة، وانتظاراً للحظة ينقض عليها بأي زعم يفتريه. كيف كان سيكون هذا؟ لا أحد يعرف، بل لا حاجة كثيراً للتفاصيل، لكنه بأي طريق سيسعى للحصول على هذه الأموال أو على مكاسب أخرى مستفيداً من الابتزاز بها، هو في الحالين جاهز للانقضاض مثلما انقض على ممتلكات سكان أمريكا الأصليين.

 

وسواء عليه أنقض عهده ولم يرقب إلاًّ، أو اكتفى بالابتزاز لإدارة ملفات كاليمن وسوريا وغيرها تحت هذا الضغط الهائل.. وسواء أقلنا كان ينبغي أو لم يكن بالمقدور، سيان؛ فالمهم هو محاولة الخلوص إلى ما يتعين فعله، وقراءة مستقبل منتجات و"مخلفات" هذا القانون اللصوصي.

 

 
أما القانون فهو لم يأت بعيداً عن سياق الآية الكريمة "ولتستبين سبيل المجرمين"، إذ صارت معه الصورة واضحة لكل ذي عينين، وبات من الضرورة مجاوزة الجدل حول التعامل مع الولايات المتحدة كـ"حليف"، حيث الواقع يقضي بأن يصار إلى خطة جديدة جريئة للتعامل مع ما حصل؛ فأمام السعودية عدة توصيفات أو توقعات لما جرى:
-    إما أن الولايات المتحدة تريد الابتزاز واستخدام ورقة الأرصدة السعودية لإدارة ملفات تتعلق بسوريا واليمن والعلاقة مع تركيا.
-    أو أنها تريد بالفعل الاستيلاء على هذه الأموال تحت ذريعة التعويضات.
-    أو أنها عازمة على المضي أكثر من هذا سواء أحصلت على الأموال أم لم تحصل.. أي أنها تطمح إلى خلق أزمة داخلية في السعودية طمعاً في الأخير إلى تقسيمها.

 

 
المقلق
أن واشنطن حين حركت هذا الملف، برغم ما يعتريه من أخطاء استراتيجية جسيمة ستؤثر عليها مستقبلاً إن مضت فيه بجدية، كانت تدرك أن الخيارات تضيق أمام دول الخليج عموماً والسعودية خصوصاً، لجهة تغير الخارطة السياسية في المنطقة وخروج العراق ومصر من معادلة القوى العربية المؤثرة والفوضى في كل من سوريا واليمن وليبيا، والأزمات التي سببها انهيار أسعار النفط العالمية.

 

لكن من دون شك؛ فإن السعودية لا تعدم أوراقاً لتوجيهها والتحرك في مقابل هذا الهجوم القانوني الأمريكي عليها، منها ما هو قانوني يتعلق بالتصعيد دولياً، وعدم اعترافها بهذا القانون لتعارضه مع القانون الدولي، ومنها ما هو دبلوماسي، لكن الأهم هو اتخاذ خطوات أكثر صرامة فيما يخص بناء تحالف استراتيجي قوي مع تركيا.. من حسن القدر أن تركيا خرجت معافاة من محاولة الانقلاب، وهي أيضاً بحاجة ملحة لمثل هذا التحالف لتثبيت وضعها وتوسيع خياراتها الإقليمية الضيقة أيضاً.. ومن حسن القدر أيضاً أن الولايات المتحدة الأمريكية تعاني هي الأخرى من اتساع مشكلاتها الخارجية والتي أضحت عاجزة عن حلها، بما أتاح المجال لتدخل دول أخرى قوية في فضاءات كانت تدور كواكبها في مداراتها، هذا من شأنه أن يتيح فرصاً أكبر للرياض في مواجهتها القانونية.. من حسن القدر أيضاً أن النظام الأممي نفسه مصاب باضطراب، وأن دولاً إقليمية قوية سواء في "الشرق الأوسط" أو خارجه بدأت تظهر ضجرها من نظامه الاستبدادي.. على السعودية ألا تراوح مكانها فيما يتعلق بالملفين اليمني والسوري، وإن بدت واشنطن على تقيد يديها فيهما، إذ لا يمكن للمشكلة القانونية التي أفرزها جاستا للسعودية إلا بالمضي قدماً إلى الأمام فيما يخص هذين الملفين برغم ما سيجلبه ذلك من تحدٍ للولايات المتحدة وروسيا وإيران فيهما.. عليها أن تعمل على حفز دول مجلس التعاون الخليجي لاتخاذ موقف موحد من القانون، والتحذير من مغبة تنفيذه على دول الخليج عموماً، وبحث قضية إدارة الأموال الخليجية في الولايات المتحدة وكيفية سحب ما يمكن منها وبيع بعض أصولها تدريجياً.

 

 
على ما يبدو؛ فإن ثمة إجراءات أساسية ستلجأ إليها الرياض
، بغض النظر عن قراءتها لأغراض القانون النهائية، وثمة إجراءات أخرى تخضع لتوصيفها لأهداف القانون النهائية، وهي ما قد تراجع فيها الرياض ذاتها فيه مراراً لأن المضي بها يعني دخول العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية نفقاً مظلماً، وقد تجد نفسها مضطرة في الأخير للولوج فيه وفق تقدير موقف يأخذ بالاعتبار النسب التي جرى بها نقض فيتو أوباما، وهي نسب لا تعني مجرد استصدار قانون وفق معطيات قانونية وإنسانية، وإنما استراتيجية مواجهة، وتعبير فج عن كراهية تشي بأن واشنطن لم تعد تنظر للسعودية كحليف، وأنها بصدد تطبيق نظرية "أمير الظلام" ريتشارد بيرل مساعد وزير الدفاع في عهد ريجان، والذي قال في أعقاب بدء الحملة على العراق: "سيكون العراق الهدف التكتيكي للحملة، وستكون السعودية الهدف الاستراتيجي".

 

 
بأي حال
، وبهذا الزخم الذي صدر به القانون، والدافعية الكبيرة التي قفزت به لحيز التطبيق بأغلبية كاسحة، فإن الولايات المتحدة لا تمزح، وهي تدرك مغباته السلبية الكثيرة على الصعيد الدولي، ومع هذا هي ماضية في تطبيقه، بما يعني أنها دقت طبول مواجهة حقيقية مع الخليج العربي.. تلك المغبات الخطيرة التي سيكون لها أثرها على مناخ الاستثمار في الولايات المتحدة، وفي علاقاتها بدولة كالصين، وفي إدخال العالم في فوضى قانونية محتملة من القضايا والتراشقات القانونية، ومن التأثير على سمعة الولايات المتحدة الاقتصادية، ومن الأضرار التي قد تلحق بالدولار الأمريكي وتسرع من وتيرة استبداله بسلة عملات في دول جديدة.. إلى آخر هذه "المخلفات" التي تقبل بها واشنطن على مضض في مقابل إمضاء هذا القانون، هذا علاوة على الأثر بعيد المدى الخاص ببنية المجتمع الدولي نفسه، وقوة القانون الدولي، وتماسك المنظمات الدولية.. هذا ثمن باهظ، لسلعة بالتأكيد غالية.