هل ينهي اتفاق حلب الأخير النفوذ الأميركي في المنطقة؟
18 ذو الحجه 1437
د. احمد محمود عجاج

يعتقد كثيرون أن أوباما أوصل أميركا إلى بر الأمان، وأخرجها من حروب شرق أوسطية، واستعاد توازنها الاقتصادي، وسمح لها أن تركز انتباهها على منطقة آسيا، ومواجهة التمدد الصيني. ولا يمانع أن يمنح البعض الرئيس أوباما وسام الذكاء والشجاعة، لأنه لم ينجر وراء العاطفة، وكان واقعيًا في سياساته: المصلحة الأميركية لا غير!

 

في سياق هذه الواقعية، توصل أوباما، منذ أيام مع الروس، إلى اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا وفتح ممرات إنسانية، علاوة على التعاون في محاربة الإرهاب، وبالتحديد «داعش» و«النصرة» (فتح الشام)، هذا التعاون يتأسس على فرضية تحييد الخلاف حول مصير الأسد، والعمل على هزيمة الإرهاب واستكشاف سبل الحل السياسي في سوريا، ما هو مسكوت عنه في الاتفاق هو الاعتراف الضمني بالأسد ونظامه، ومنحه بالممارسة الحق في الدفاع عن نفسه، وأن يكون شريكًا في الحرب على الإرهاب! بعبارة أخرى، لم يعد أوباما يرى في الأسد عقبة، وإزاحته شرطًا، ولا عجب إن سمعناه غدًا يقول، كما يردد الروس والإيرانيون: لنترك للشعب السوري حرية القرار. وإذا ما قال ذلك لم يعد ثمة خلاف مع الروس على الإطلاق، ولا مع الإيرانيين، إنما سيكون خلافه مع حلفائه في السعودية، وتركيا وبعض دول الخليج. وهذا يعني أن سياسة أوباما تأسست على التحالف مع الأعداء، والابتعاد عن الحلفاء!

 

اعتبر أوباما في إحدى تجلياته (الواقعية) أن روسيا دولة من الدرجة الثانية (دولة إقليمية)، ونبذ رئيسها عدة مرات، وفرض عقوبات عليها، لكنه اضطر الآن أن يتابع مع روسيا تفاصيل في الشرق الأوسط، بعد تدخلها في سوريا، وفي عملية السلام بين الإسرائيليين والسلطة الفلسطينية وكذلك في أزمة أوكرانيا، واضطر أن يعترف بأنها ند، وأن وجودها في سوريا أصبح واقعًا لا يغيره سوى المصادمة المباشرة معها، الاصطدام خيار استبعده أوباما منذ اليوم الأول، وبالتحديد عندما خرق الأسد خطه الأحمر في سوريا. وكم كانت فرحة أوباما بعدما تدخل بوتين لإراحته من ضرب الأسد وتبعات المواجهة مع الروس! كما ثمَّن لروسيا كثيرًا تعاونها معه لحل المشروع النووي الإيراني «سلميًا».

 

يعتقد أوباما رغم إقراره بإيجابية التعاون مع روسيا أنها بتدخلها في سوريا تغرق نفسها في الوحل السوري، وأن أميركا ستكتفي بالتفرج على هذه الورطة! يرى أوباما أن روسيا ترتكب حماقة بتدخلاتها في أوكرانيا وفي سوريا، وأن النتائج عليها حصار أوروبي، وعداء عربي، وهواجس إسرائيلية! وهذا كله يجعل أميركا القوة الوحيدة المتحكمة في القرار، ومن دون تكاليف!

 

في الخليج العربي يتحرش الإيرانيون بسفن أميركا الحربية، ويجبرونها على إرسال الملايين من الدولارات في طائرات خاصة، وسرًا، ولا يتورعون دومًا عن تهديدها، ناهيك عما فعلوه في الماضي بالقوات الأميركية في بيروت، أو الخُبر وفي أماكن أخرى من العالم. وفي بحر الصين، يتحرك بوتين ويرسل سفنه الحربية لإجراء مناورات مع الصين، في تحدٍ واضح للإدارة الأميركية التي تطالب الصين بتخفيف وجودها العسكري في هذه المنطقة! كما أن حليف أميركا، وصديق أوباما، الرئيس إردوغان، لم يتورع عن اتهام أميركا بالتآمر عليه، وتصالح مع بوتين، مع أنه ثاني أقوى دولة في حلف «الناتو»، المخصص أصلاً لمواجهة الاتحاد السوفياتي. الأغرب، أن المرشح الأميركي دونالد ترامب قال علانية إن أوباما رئيس ضعيف، وإنه يفضل عليه بوتين القوي!

 

إذن نحن أمام واقع قلما رأيناه من قبل؛ رئيس دولة عظمى يقول بأن أميركا لا تزال القطب الأوحد، بينما تخسر يوميًا سمعتها، وكلمتها، وحتى حلفاءها، لقد تحولت أميركا في نظر الخصوم إلى كيان أجوف، وأصبحت سمعة رئيسها بلا معنى، لأنه يقول ما لا يفعل، وفي نظر الحلفاء أصبحت دولة مشكوكًا في مصداقيتها. فالمملكة العربية السعودية، كمثال، كانت الحليف الوفي والأوثق لأميركا، لكن أميركا تسن ضدها قانونًا لمحاكمتها بتهمة الإرهاب للاستيلاء على مدخراتها المالية، أميركا تحاكم حليفها بالإرهاب، وتصادق عدوتها إيران، وتمدها بالمال، وتسمح لها بتطوير السلاح النووي والباليستي، بحجة الحفاظ على الاستقرار! في مفهوم الكونغرس أصبحت المملكة التي لم تتلفظ بكلمة ضد أميركا، ولم تتوانَ لحظة عن مساعدتها متطرفة، وأصبحت إيران، قاتلة المارينز في لبنان والخبر في السعودية، ومنشئة الميليشات الطائفية، والمخططة لقتل السفير السعودي في أميركا، وقاتلة الجنود الأميركان في العراق، وحاضنة قياديي «القاعدة»، والمترجمة لكتب مفكر الإرهاب سيد قطب في نظر أميركا، والمشعلة لبركان الحقد الطائفي، دولة معتدلة، وأصبحت المملكة الحليفة عدوا!

 

ما يهم أن هذه السياسة الأميركية المشوشة كانت لها تداعياتها في المنطقة والعالم، على المستوى العالمي نشاهد اليوم غياب الهيبة الأميركية، وانفراط القطبية الأحادية، واستبدال الأقطاب المتعددة بها، وتزايد النزاعات، وخواء الأمم المتحدة، في أوروبا تدخل الروس لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية، واقتطعوا أرضًا من أواكرانيا وضموها لروسيا، وتمددت الصين في بحر الصين الجنوبي، وأنشأت، رغم صدور قرار دولي من محكمة العدل الدولية، حظرًا جويًا فوق منطقة بحرية متنازع عليها، وفي أفغانستان تعاظمت قوة «طالبان» واتجهت باكستان أكثر صوب الصين. وفي منطقة الشرق الأوسط نشاهد تسارع دول كثيرة نحو روسيا، وكانت آخرها تركيا، لعقد تفاهمات مع القيصر الروسي الذي دخل المنطقة ولا يفكر في الخروج منها، وحتى الصين أصبح لها موطئ قدم في الشرق الأوسط على حساب الرصيد الأميركي.

 

لقد أظهر اتفاق حلب الأخير أميركا على وجهها الحقيقي؛ دولة ليست بالعظمى، وعاجزة ليس عن حماية حلفائها، بل حتى مصالحها، كانت أميركا، مع بداية عهد أوباما، دولة تدافع (ولو انتقائيًا) عن حق الشعوب بالحرية، وتطالب بنزع السلاح النووي، وتفعيل الأمم المتحدة، ومحاربة الإرهاب، وأصبحت بعد نهاية عهده دولة متآمرة على حرية الشعوب، وعلى حقوق الإنسان، ولا تبالي بانتهاكات القانون الدولي، ولا بانتشار السلاح النووي، ولا بتحول الأمم المتحدة إلى داعم للاستبداد والقهر.

 

 

المصدر/ الشرق الأوسط