مكافأة المحسن ....خلق إسلامي نفتقده
16 ذو القعدة 1437
د. عامر الهوشان

{  هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } الرحمن/60 , آية في كتاب الله تعالى أرست قاعدة عظيمة فيما ينبغي أن تكون عليه أسس التعامل بين عباد الله تعالى في حياتهم الدنيوية , فالجزاء لا بد أن يكون من جنس العمل , والإحسان لا ينبغي أن يكافأ ويقابل إلا بإحسان مثله .

 

 

وإذا كان سياق الآية الكريمة يتحدث عن إحسان الله تعالى لعباده المحسنين في عبادته ونفع عباده بالثواب الجزيل والنعيم المقيم كما قال السعدي في تفسيره للآية : هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق ونفع عبيده، إلا أن يحسن إليه بالثواب الجزيل، والفوز الكبير، والنعيم المقيم، والعيش السليم ........ فإن عموم معناها يشير بشكل واضح إلى وجوب أن لا يُقابل الإحسان إلا بالإحسان لا بالتجاهل والتغافل , وأن لا تكون مكافأة صاحب المعروف إلا بمعروف مثيل لا بالنكران والجحود .

 

 

والحقيقة أن افتقار مجتمعاتنا لهذا الخلق الإسلامي النبيل بات أمرا ملحوظا , وافتقادها للنماذج الحية الكافية للإبقاء على شيوع وذيوع هذا الخلق في المجتمع وعدم خفوته وذبوله شيئا فشيئا .... أمسى من الوضوح بمكان , فالكثير من المسلمين لا يقابلون الحسنة بمثلها , ولا يكافئون صاحب المعروف بما يليق بفعله المحمود .

 

 

وإذا كان البعض يقابل المعروف بشيء من اللامبالاة أو الاعتبار , فإن بعضهم الآخر قد يقابل المعروف بالمنكر والإحسان بالإساءة - عياذا بالله - وهو ما قد يهدد استمرار شيوع صنع المعروف بين الناس , ويقلل من فاعليه , الأمر الذي يعتبر من أبرز وأخطر مظاهر علامات انهيار المجتمعات وفساد الأمم والحضارات .

 

 

وانطلاقا من أهمية هذا الخلق الكريم , وخطر آثار ضموره واضمحلاله وافتقاده السلبية على المجتمع الإسلامي عموما...... كان لا بد من تكرار تناوله , وبيان أهمية التنويه بضرورة التذكير به , خصوصا مع ازدياد غياب مكافأة المحسن , وكثرة مظاهر جحود الفضل والعرفان في حياة المسلمين المعاصرة .

 

 

لقد نبه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة مكافأة صانع المعروف في الحديث الصحيح الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من استعاذكم بالله فأعيذوه و من سألكم بالله فأعطوه و من دعاكم فأجيبوه و من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه ) صحيح الجامع للألباني برقم/6021

 

 

وفي الحديث إشارة بالغة الأهمية إلى أن مكافأة المحسن لا يشترط أن تكون مادية دائما , فقد لا يجد بعض الناس ما يكافئون به المحسن ماديا , إلا أن ذلك لا يعني - في الهدي النبوي - تجاهل إحسان المحسن أو عدم المبادرة لمكافأته , ولو من خلال الدعاء له بالخير , والرجاء من الله تعالى أن يكافأه ويثيبه على صنيعه ومعروفه بما هو سبحانه أهل له .

 

 

إن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ضرورة مكافأة المحسن ومقابلة معروفه بمعروف مماثل أو شبيه , أو على الأقل الدعاء له إن لم تكن هناك استطاعة لمكافأة صنيعه الطيب بمقابل مادي .... ينطلق من أثر هذا السلوك الإيجابي على نفس المحسن الذي يزداد إحسانا وعطاء كلما قوبل إحسانه بإحسان , ناهيك عن أثره الإيجابي أيضا على المجتمع الإسلامي بأسره , إذ بهذه الخلق تبقى صنائع المعروف بين المسلمين دائمة غير منقطعة .

 

 

والحقيقة أن ابتعاد المسلمين عن كتاب ربهم وهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم هو الذي أدى إلى ظهور الكثير من السلوكيات المعاصرة التي لا تتوافق كليا مع تعاليم دين الله الإسلام , فترى أحدهم لا يقابل حتى بالشكر والدعاء إحسان أخيه المستمر إليه , بينما ترى آخر قد يكتفي في مقابلة صنيع أخيه الطيب بالدعاء فحسب رغم قدرته على مكافأته بمعروف مشابه أو مثيل .

 

 

ولطالما كنت أتساءل : هل يمكن للمعروف والخير أن يستمر في مجتمعاتنا و ينتشر ويزداد رغم وجود هذه النماذج السلبية التي لا تقابل المعروف بالمعروف وربما تقابله بالمنكر ؟! وكان الجواب يأتي مباشرة من خلال نماذج أخرى إيجابية ما تزال موجودة بفضل الله وكرمه , ولعل منها ذلك الشيخ المربي الذي طالما شرفت بصحبته في كثير من المواقف , والذي كان يأبى إلا أن يكافأ كل من أسدى إليه معروفا - مهما كان صغيرا أو بسيطا - بمعروف أو هدية مناسبة , فإن لم يجد – وكان ذلك نادرا – فالدعاء له ولأهله بالخير على أقل تقدير .

 

 

 

والحقيقة أن أمثال هذه النماذج الطيبة إنما تقتدي بصنيعها هذا بهدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم , الذي كان لا يدع أحدا قدم إليه هدية أو صنع إليه معروفا إلا وكافأه عليه ماديا أو معنويا , فقد ورد في الحديث عن خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ربيعة الأسلمي وهو يروي لنا قصة مكافأة رسول الله صلى الله عليه وسلم له جزاء خدمته فقال : ( كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِى ( سَلْ ) . فَقُلْتُ : أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِى الْجَنَّةِ . قَالَ ( أَوَغَيْرَ ذَلِكَ ) . قُلْتُ هُوَ ذَاكَ . قَالَ ( فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ) صحيح مسلم برقم/1122

 

 

ولم يكتف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بتلك المكافأة العظيمة , بل زاده على ذلك بمساعدته في أمر زواجه , فقد ذكر ربيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم : " يا ربيعة ألا تزوج ؟ " قال قلت : يا رسول الله ما أحب أن يشغلني عن خدمتك شئ وما عندي ما أعطى المرأة .

 

 

قال : فقلت بعد ذلك : رسول الله أعلم بما عندي منى يدعوني إلى التزويج، لئن دعاني هذه المرة لاجيبنه.

 

 

قال : فقال لى: " يا ربيعة ألا تزوج ؟ " فقلت: يا رسول الله ومن يزوجنى، ما عندي ما أعطى المرأة . فقال لى : انطلق إلى بنى فلان فقل لهم : إن رسول الله يأمركم أن تزوجوني فتاتكم فلانة .

 

قال : فأتيتهم فقلت : إن رسول الله أرسلني إليكم لتزوجوني فتاتكم فلانة . قالوا: فلانة ؟ قال : نعم . قالوا: مرحبا برسول الله ومرحبا برسوله. فزوجوني.

 

فأتيت رسول الله فقلت : يا رسول الله أتيتك من خير أهل بيت صدفوني وزوجوني فمن أين لى ما أعطى صداقي ؟ فقال رسول الله لبريدة الاسلمي : " اجمعوا لربيعة في صداقه في وزن نواة من ذهب . فجمعوها فأعطوني فأتيتهم فقبلوها .

 

فأتيت رسول الله فقلت : يا رسول الله قد قبلوا، فمن أين لى ما أولم ؟ قال: فقال رسول الله لبريدة : " اجمعوا لربيعة في ثمن كبش " قال : فجمعوا وقال لى : " انطلق إلى عائشة فقل لها فلتدفع إليك ما عندها من الشعير" .

 

قال: فأتيتها فدفعت إلي , فانطلقت بالكبش والشعير فقالوا: أما الشعير فنحن نكفيك، وأما الكبش فمر أصحابك فليذبحوه. وعملوا الشعير، فأصبح والله عندنا خبز ولحم. السيرة النبوية لابن كثير 4/661
 

 

إن جحود صنيع المعروف وعدم مقابلته بالمثل أو حتى بالدعاء والشكر قد يورث في نفس المحسن ضعفا في الاستمرار في إحسانه أو تقديم الخير لعموم المسلمين , مما يعني أن أثر عدم مكافأة المحسن لا يقتصر على مقترفه فحسب , بل يصل ضرره وأثره السلبي على غيره علم ذلك أو جهله .