فسخ الدين بالدين
4 ذو القعدة 1437
د. الصديق محمد الأمين الضرير

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

وبعد فهذا بحث عن: فسخ الدين بالدين.
أكتبه استجابة لطلب كريم من سعادة الأمين العام للمجمع.

 

عناصر الموضوع المطلوب بحثها:

1-    أسماء فسخ الدين بالدين عند الفقهاء.
2-    صورة (فسخ الدين بالدين مباشرة – فسخ الدين بالدين عن طريق سلعة يملكها الدائن في عقد السلم إلخ...).
3-    تفصيل القول في حكمه.
4-    تطبيقاته في العصر الحاضر (دون تسمية مؤسسة بعينها).
والله أسأل أن يوفقني إلى الصواب، وأن يجنبني مواطن الزلل إنه سميع مجيب.

 

أولاً: أسماء فسخ الدين، ومعناه:

هذه العبارة وردت في كتب المالكية كثيراً، ولم أقف عليها عند غيرهم.

وردت في المدونة تارة بعبارة: فسخ الدين في الدين(1)، وتارة بعبارة: دين بدين(2)، وتارة بعبارة الكالئ بالكالئ(3)، ولم أقف فيها على عبارة: فسخ الدين بالدين، ولكني وجدتها في التهذيب في اختصار المدونة(4).
ووردت في رسالة ابن أبي زيد القيرواني المتوفى سنة 386هـ بعبارة فسخ الدين بالدين(5).
ووردت في الذخيرة بعبارة فسخ الدين في الدين(6)، وعبارة دين بدين(7)، وانفرد القرافي بعبارة دين في دين(8).

 

ووردت في مختصر خليل بعبارة فسخ الدين في الدين(9)، وهذا التعبير هو الأكثر استعمالاً، والمعنى واحد، وهو كما قال الباجي:
معنى فسخ الدين في الدين أن يشغل الذمة على غير ما كانت عليه مشغولة به(10).

 

ثانياً: صور فسخ الدين بالدين، وحكم كل صورة:

صور فسخ الدين بالدين كثيرة، والمطلوب الحديث عن ثلاثة هي:

1 – فسخ الدين بالدين مباشرة:

من أوضح صور فسخ الدين بالدين مباشرة تأخير الدين سواء كان من قرض، أو من بيع على الزيادة فيه، كأن يكون لشخص على آخر ألف دينار فلما حل الأجل قال المدين للدائن أجلني شهراً، وأعطيك ألفاً وعشرة، أو قال الدائن للمدين: أجلت لك الدين شهراً، وتزيدني عشرة، وهذا هو ما يفعله المرابون اليوم، وهو ما كانت تفعله الجاهلية، ويسمى: أخرني وأزيدك، وتقضي أو تربي، وهو لا خلاف في منعه.
وسمى الدردير هذه الصورة صريح فسخ الدين بالدين، وضبطه بأن يطالبه بدينه فيفسخه في شيء يتأخر قبضه(11).
أما تأخير الدين أجلاً ثانياً من غير زيادة، أو مع ترك بعضه، فلا بأس به، بل هو مندوب(12).

 

2 – فسخ الدين بالدين عن طريق سلعة يملكها الدائن:

تصوير هذه المسألة أن يقرض رجل رجلاً دنانير، فيشتري المقترض من المقرض سلعة بتلك الدنانير، وحكم هذه الصورة المنع إذا كان القرض إلى أجل، واشترى المقترض به السلعة إلى أجل، لأن مبلغ القرض يكون قد عاد إلى المقرض بالشراء به منه، وبقي في ذمة المقترض أصل القرض اشترى به السلعة، فصار فسخ دين في دين؛ لأن ما خرج من اليد وعاد إليها لغو.

 

أما إذا كان القرض إلى أجل، والسلعة حالة فيجوز، وإذا كان القرض حالاً يجوز سواء كانت السلعة حالة أو مؤجلة.
جاء في المدونة:

(قلت): فإن أسلفني دراهم أيصلح لي أن أشتري منه بتلك الدراهم سلعة من السلع مكاني حنطة أو ثياباً (فقال) إن كان أسلفك إياها إلى أجل حالة، واشتريت بها منه حنطة يداً بيد، فلا بأس بذلك، وإن أسلفك إياها حالة واشتريت بها منه حنطة يداً بيد أو إلى أجل فلا بأس بذلك، وإن أسلفك إياها إلى أجل، واشتريت بها حنطة مكانك إلى أجل، فلا خير في ذلك، وذلك الكالئ بالكالئ؛ لأنك إذا رددت إليه دراهمه بأعيانها مكانك، فصار له عليك دنانير إلى أجل بطعام عليه إلى أجل، فصار ذلك ديناً بدين(13).

 

فإن كانت السلعة غائبة فلا يجوز البيع، سواء حل الأجل، أو لم يحل، لأن هذا من فسخ الدين في الدين: فسخ دين السلعة في دين الدنانير.

 

جاء في المدونة: كل شيء كان لك على غريم نقداً فلم تقبضه، أو إلى أجل، فحل الأجل، أو لم يحل، فلا تبعه منه بشيء وتؤخره(14).

 

ولا بد في هذه الحالة من القبض قبل التفرق: جاء في المدونة:

(قلت) أرأيت إن أقرضت رجلاً حنطة إلى أجل فلما حل الأجل بعته تلك الحنطة بدنانير أو بدراهم نقداً، وافترقنا قبل القبض أيفسد ذلك أم لا؟ (قال) لا يصلح ذلك إلا أن تنقد منه، أو تقول له اذهب بنا إلى السوق فأنقدك، أو يقول لك: اذهب بنا إلى البيت فأجيئك بها، فهذا لا بأس به، فأما إذا افترقتما، وذهب حتى تصير تطلبه بذلك، فلا خير فيه؛ لأنه يصير ديناً بدين(15).

 

ولخص البراذعي هذا الحكم بقوله: وكل دين على رجل من بيع أو قرض فلا تفسخه عليه إلا فيما تتعجله، فإن أخذت به منه قبل الأجل أو بعده سلعة معينة، فلا تفارقه حتى تقبضها، فإن أخرتها لم تجز(16).

 

أما إذا كانت السلعة حاضرة فالبيع جائز، ولا يضر تأخير القبض اليسير الذي يحصل بصدد التسليم، ولو استمر يوماً أو يومين؛ لأن هذا ليس من فسخ الدين في الدين.

 

وأنقل إليكم هذا النص على طوله من المدونة؛ لأنه يقرر هذا الحكم:

(قلت) أرأيت لو أن لرجل علي ألف درهم إلى أجل، فلما حل الأجل بعته بالألف سلعة بعينها حاضرة فرضيها، ثم قام فدخل بيته قبل أن يقبضها مني (قال) أرى البيع جائزاً، ويقبض سلعته إذا خرج؛ لأن مالكاً قال لي:

إذا كان لك على رجل دين فلا تشتر منه به سلعة بعينها إذا كانت السلعة غائبة..... وهذه السلعة التي سألت عنها إن كانت حاضرة يراها حين اشتراها لم يكن لبائعه أن يمنعه من قبضها فإنما هو رجل ترك سلعته وقام عنها، فإذا رجع أخذ سلعته (قال) ولقد سألت مالكاً عن الرجل يكون له على الرجل دين فيبتاع به طعاماً فيكثر كيله فيقول له بعد مواجبته البيع بالدين الذي عليه: أذهب فآتي بدوابي أحمله، أو أكتري له منزلاً اجعله فيه، أو آتي بسفن أتكاراها لهذا الطعام، فيكون في ذلك تأخير اليوم أو اليومين (قال) مالك: لا بأس بهذا، ليس في هذا دين، وأراه خفيفاً، ولكني أرى ما كان في الطعام تافهاً يسيراً لا خطب له في المؤنة والكيل مما يكال أو يوزن أو يعد عداً مثل الفاكهة وما أشبهها، أو قليل الطعام، فإن ذلك إذا أخذه بدينه لم يصلح أن يؤخره إلا ما كان يجوز له في مثله أن يأتي بحمال يحمله، أو مكتل يجعله فيه، فعلى هذا فاحمل أمر الطعام في قول مالك(17).

 

ومثال الحالة الثانية التي يكون المفسوخ فيها منافع العين أن يفسخ الدين في سكنى دار مثلاً: كأن يكون لشخص على آخر دين ألف دينار، فإذا حل الأجل قال المدين للدائن: أعطيك داري هذه تسكنها عشرة أشهر قضاء لدينك الألف دينار، ويقبل الدائن.

 

حكم هذه الصورة:

روى ابن القاسم عن مالك المنع، وروى أشهب عن مالك أيضاً الجواز، وجه قول ابن القاسم: إن ذمة الذي عليه الدين قد تعلقت به على الصفة التي هو عليها، فإذا عاوض منه سكنى دار لم تبرأ ذمته من الدين إلا باستيفاء مدة السكنى فانتقلت ذمته عما كانت عليه إلى أن يكون حالها مرتقباً إن استوفيت مدة السكنى برئت، وإن منع من ذلك مانع رجع عليه بقيمة الدين، فصارت مشغولة على غير الوجه الذي كانت عليه مشغولة، وذلك من فسخ الدين بالدين.
ووجه قول أشهب هو أن قبض الدائن لرقبة الدار بمنزلة قبضه لمنافعها(18).

 

وجاءت هذه المسألة في المدونة على النحو التالي:

(قلت) أرأيت لو أن لي ديناً على رجل وهو حال أو إلى أجل، أيصلح لي أن أكتري به من الذي عليه الدين داره سنة، أو عبده هذا الشهر؟ (قال) قال مالك: لا يصلح هذا، كان الدين الذي عليه حالاً أو إلى أجل؛ لأنه يصير ديناً بدين، فسخ دنانيره التي له في شيء لم يقبض جميعه(19).

 

وذكر القرافي خلافاً في هذه المسألة على النحو التالي:

قال: لا تأخذ في الدين الحال أو المؤجل منافع دار، أو أرض روية، أو ثمرة أزهرت؛ لأنه يتأخر قبضها، فهو يفسخ الدين في الدين، قال سند: وعن مالك الجواز؛ لأن تسليم الرقاب تسليم المنافع... وعنه إذا كان هذا يستوفي قبل أجل الدين جاز، وإلا امتنع لئلا يكون ربا الجاهلية، وهذا إذا كانت الدار ونحوها معينة وإلا فلا(20).

 

3 – فسخ الدين بالدين في عقد السلم، وحكمه:

1 – من صور فسخ الدين بالدين في عقد السلم أن يشتري شخص قمحاً سلماً، وقبل أن يحل الأجل، أو بعد ما يحل يعرض المسلم إليه – البائع – على المسلم – المشتري – ذرة بدل القمح.
هذه الصورة لا تجوز إذا كانت قبل أن يحل الأجل، ولا تجوز بعد محل الأجر إذا كان البدل مؤجلاً.
جاء في المدونة (قلت) أرأيت لو أني أسلمت إلى رجل في محمولة إلى أجل، فلقيته قبل الأجل فقلت له هل لك أن تحسن، تجعلها في سمراء إلى أجل ففعل، (قال): قال لا يجوز ذلك في قول مالك؛ لأنك تفسخ محمولة في سمراء إلى أجل فلا يجوز، ألا ترى أنك فسخت ديناً في دين.
(قلت) فلو حل الأجل لم يكن بذلك بأس أن آخذه من سمراء محمولة، أو من المحمولة سمراء (قال) نعم لا بأس به في قول مالك، إذا كان ذلك يداً بيد؛ لأنه يشبه البدل(21).

 

2 – ومن صور فسخ الدين بالدين في عقد السلم أن يبيع المسلم – المشتري – المسلم فيه، غير الطعام، إلى المسلم إليه – البائع – قبل أن يحل الأجل، أو بعدما يحل بنقد أو بعرض، وحكمه المنع إن كان النقد أو العرض مؤجلاً، أما إن كان معجلاً فيجوز بشرط القبض في المجلس.

 

قال مالك: من سلف ذهباً أو ورقاً في حيوان أو عروض، إذا كان موصوفاً إلى أجل مسمى، ثم حل الأجل، فإنه لا بأس أن يبيع المشتري تلك السلعة من البائع قبل أن يحل الأجل، أو بعد ما يحل بعرض من العروض، يعجله ولا يؤخره، بالغاً ما بلغ ذلك العرض، إلا الطعام، فإنه لا يحل له أن يبيعه قبل أن يقبضه...

 

وقال مالك: ومن سلف في سلعة إلى أجل، وتلك السلعة مما لا يؤكل، ولا يشرب، فإن المشتري يبيعها ممن شاء بنقد أو عرض، قبل أن يستوفيها، من غير صاحبها الذي اشتراها منه، ولا ينبغي له أن يبيعها من الذي ابتاعها منه إلا بعرض يقبضه ولا يؤجره، قال مالك: وإن كانت السلعة لم تحل، فلا بأس بأن يبيعها من صاحبها بعرض مخالف لها بين خلافه يقبضه ولا يؤجره(22).

 

وقال الباجي (مسألة) ومن شرط صحة هذا البيع القبض قبل التفرق، أو ما هو في حكم ذلك؛ لأنه يدخله قبل الأجل وبعده فسخ دين في دين، وذلك ممنوع باتفاق(23).

ج – ومن صور فسخ الدين بالدين في عقد السلم الإقالة إذا تأخر فيها رد الثمن فإنها لا تصح.
قال الدردير: الإقالة في السلم يمتنع فيها تأخير رد الثمن؛ لأنه يؤدي إلى فسخ دين في دين، فهو كصريح فسخ الدين في الدين(24).

 

ثالثاً: تطبيقات فسخ الدين بالدين في العصر الحاضر

 

1 – جعل الدين رأس مال سلم

جعل الدين رأس مال سلم صورته أن يكون لشخص على آخر عشرة آلاف دينار مثلاً، فإذا حل الأجل اتفقا على أن يبيع المدين للدائن أرادب ذرة بالمبلغ سلماً.
علمت أن بعض المصارف الإسلامية تمارس هذه الصورة من السلم مع عملائها إذا حل أجل دين المصرف.
وهذه معاملة غير جائزة في نظري وبخاصة من المصارف الإسلامية.

 

وإليكم فقه هذه المسألة باختصار:

قال ابن قدامة: إذا كان له في ذمة رجل دينار، فجعله سلماً في طعام إلى أجل لم يصح، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ من أهل العلم، منهم مالك والأوزاعي، والنووي، وأحمد، وإسحق، وأصحاب الرأي، والشافعي، وعن ابن عمر أنه قال: لا يصح ذلك؛ لأن المسلم فيه دين فإذا جعل الثمن ديناً كان بيع دين بدين، ولا يصح ذلك بالإجماع(25).

 

ولم يقبل ابن القيم هذا الإجماع فأجاز هذه الصورة، وسماها بيع الواجب بالساقط قال: وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم إليه في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته، فقد وجب عليه دين، وسقط عنه دين غيره، وقد حكى الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه قاله شيخنا، واختار جوازه، وهو الصواب، إذ لا محظور فيه، وليس بيع كالئ بكالئ فيتناوله النهي بلفظه، ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى(26).

 

أقول: هذه المسألة تدخل في بيع الدين بالدين الذي يسميه المالكية فسخ الدين في الدين، وأرى منعها؛ لأنها لا تخلو من الربا أو شبهته، وهذا هو المحظور الذي فيها؛ لأن الإقدام على مثل هذه المعاملة يكون غالباً عندما يكون المدين غير قادر على أداء الدين في موعده، أو يكون راغباً في تأجيله، فيطلب من الدائن أن يشتري منه سلماً بدينه، ويقبل الدائن؛ لأنه سيحصل في الغالب على أكثر من دينه، فيدخل هذا في (أخرني وأزيدك) ويتأكد المنع عندي في الديون التي تكون للبنوك الإسلامية على عملائها فإذا حل الأجل، ولم يستطع المدين الوفاء، حولتها إلى رأس مال سلم.

 

وقول ابن القيم: إن شيخه جوز هذه الصورة غير صحيح فابن تيمية منع هذه الصورة، وشدد في منعها.
يقول ابن تيمية: إذا اشترى قمحاً بثمن إلى أجل ثم عوض البائع عن ذلك الثمن سلعة إلى أجل لم يجز، فإن هذا بيع دين بدين، وكذلك إذا احتال على أن تزيده في الثمن ويزيد ذلك في الأجل بصورة يظهر رباها لم يجز ذلك، ولم يكن له عنده إلا الدين الأول، فإن هذا هو الربا الذي أنزل الله فيه القرآن، فإن الرجل يقول لغريمه عند محل الأجل: تقضي أو تربي فإن قضاه وإلا زاده هذا في الدين، وزاده هذا في الأجل فحرم الله ورسوله ذلك، وأمر بقتال من لم ينته والله أعلم(27).

 

2 – من صور فسخ الدين بالدين التي ابتدعتها بعض البنوك في العصر الحاضر أنه إذا حل الأجل في عقد السلم الذي عقده مع عميله، ولم يكن عند العميل – المسلم إليه – سلعة السلم، باع له البنك سلعة مثلها مرابحة إلى أجل بثمن أكثر من ثمن السلعة المسلم فيها، واشترط عليه أن يعطيه السلعة التي باعها له سداداً لدين سلمه.

 

هذه المعاملة بهذه الكيفية لا تجوز؛ لأن المدين فسخ دين السلم في دين المرابحة مع رب السلم في أكثر من الدين، فصارت فسخ دين في دين، ولا عبرة بالسلعة؛ لأن ما خرج من اليد وعاد إليها لغو.

 

وقد كانت المعاملة صحيحة لو أن المسلم إليه اشترى سلعة مثل سلعة السلم من شخص آخر غير المسلم إلى أجل وأعطاها المسلم؛ لأن هذه الصورة ليس فيها فسخ دين في دين، وإنما فيها قضاء الدين بالدين، وتكون المعاملة صحيحة أيضاً لو اشترى المسلم إليه السلعة من المسلم بالأجل من غير شرط، وبسعر السوق، أو بأقل منه، من غير أن يعلم المسلم أنه يريد أن يقضي بالسلعة دين السلم.

 

3 – إعادة الجدولة:

إعادة جدولة الديون معروفة، ومعمول بها في المعاملات الدولية على نحو ما كان معمولاً بها في الجاهلية: تقضي أو تربي، وأخرني وأزيدك، ولكن في باريس ناد تجتمع فيه الدول الكبيرة الدائنة مع الدول الصغيرة المدينة، وتفسخ ديونها عليها في مبلغ أقل من قيمة الدين، يختلف باختلاف حال الدولة المدينة الفقيرة، وقد يصل إلى 50% إلى 90% أحياناً، وهذا فسخ دين في دين حسن تقره الشريعة الإسلامية، ويثاب فاعله، ولكن الدول الغنية المانحة لهذا التخفيض تعيد جدولة المبلغ المتبقي على المدين بجدولة جديدة، تأخذ فيها فائدة على المبلغ المتبقي، فتفسد ما أحسنت به من التخفيض. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

ملخص البحث:

عبارة فسخ الدين بالدين وردت في بعض كتب المالكية، ووردت في بعضها فسخ الدين في الدين، وفي بعضها دين بدين، ولم أقف عليها عند غير المالكية، وقال الباجي معنى فسخ الدين في الدين أن يشغل الذمة على غير ما كانت عليه مشغولة به.

 

وصور فسخ الدين بالدين كثيرة، منها فسخ الدين مباشرة، ومن أوضح صوره تأخير الدين على الزيادة فيه، ولا خلاف في منعه؛ لأنه هو ربا الجاهلية، ومنها فسخ الدين بالدين عن طريق سلعة يملكها الدائن، وصورتها أن يقرض رجل آخر دنانير إلى شهر فيشتري بها المقترض من المقرض سلعة إلى شهرين؛ لأن مبلغ القرض يكون قد عاد إلى المقرض بالشراء منه، وبقي في ذمة المقترض أصل القرض الذي اشترى به السلعة، فصار فسخ دين في دين، ومنها فسخ الدين بالدين عن طريق سلعة يملكها المدين، وهذه الصورة قد يكون المفسوخ فيها هو السلعة نفسها، وقد يكون هو منافع السلعة، مثال الحالة الأولى أن يقرض رجل آخر دنانير، ثم يشتري منه بها سلعة غائبة، فإن هذا لا يجوز سواء حل الأجل أو لم يحل؛ لأن هذا من فسخ الدين في الدين، فسخ دين السلعة في دين الدنانير.

 

ومثال الحالة الثانية التي يكون المفسوخ فيها هو منافع العين أن يفسخ الدين في سكنى دار مثلاً كأن يكون لشخص على آخر ألف دينار، فإذا حل الأجل قال المدين للدائن: أعطيك داري هذه تسكنها عشرة أشهر قضاء لدينك، ويقبل الدائن، هذه المسألة فيها قولان لمالك، قول بالجواز وقول بالمنع.

 

ومنها فسخ الدين بالدين في عقد السلم، كأن يشتري رجل قمحاً سلماً، وقبل أن يحل الأجل أو بعدما حل يعرض المسلم إليه – البائع – على المسلم – المشتري – ذرة بدلها، هذه الصورة لا تجوز إذا كانت قبل أن يحل الأجل، ولا تجوز بعد محل الأجل إذا كان البدل مؤجلاً، ومن صوره أيضاً أن يبيع المسلم – المشتري – المسلم فيه إلى المسلم إليه – البائع – قبل أن يحل الأجل أو بعدما يحل بنقد أو بعرض، وحكمه المنع إن كان النقد أو العرض مؤجلاً أما إن كان معجلاً فيجوز بشرط القبض في المجلس.

ومنها الإقالة إذا تأخر فيها رد الثمن فإنها لا تصح.

 

ومن تطبيقات فسخ الدين بالدين في الوقت الحاضر جعل الدين رأس مال سلم، وصورته أن يكون لشخص على آخر دنانير فإذا حل الأجل اتفقا على أن يبيع المدين للدائن أرادب ذرة سلماً.

 

ومن الصور التي ابتدعتها بعض البنوك أنه إذا حل الأجل في عقد السلم ولم يكن عند العميل سلعة السلم باع له البنك سلعة مثلها مرابحة إلى أجل بثمن أكثر من ثمن السلعة المسلم فيها، واشترط عليه أن يعطيه السلعة التي باعها له سداداً لدين السلم.

 

ومن الصور الجائزة شرعاً بل التي يثاب فاعلها ما يجري عليه العمل في نادي باريس من إعادة جدولة ديون الدولة الفقيرة، لولا أن الدول المانحة تأخذ فائدة على المبلغ المتبقي.

 

________________________

(1)    المدونة 8/108 و9/128 و131 و132.
(2)    المدونة 8/110 و127 و9/137 و138.
(3)    المدونة 8/110.
(4)    التهذيب 3/142 و159.
(5)    كفاية الطالب الرباني 3/340 و373.
(6)    الذخيرة للقرافي المتوفى سنة 684، 5/303 و353 و364.
(7)    المصدر السابق 5/365.
(8)    المصدر السابق 566.
(9)    مختصر خليل المتوفى سنة 769 ص187.
(10)    المنتقى شرح الموطأ 5/33.
(11)    الشرح الكبير مع الدسوقي 3/137.
(12)    كفاية الطالب الرباني 3/340.
(13)    المدونة 8/110.
(14)    المدونة 9/138.
(15)    المصدر السابق 9/137 وانظر الملتقى 5/23.
(16)    التهذيب 3/159.
(17)    المدونة 9/137 و138.
(18)    المنتقى شرح الموطأ 5/33.
(19)    المدونة 9/128.
(20)    الذخيرة 5/303.
(21)    المدونة 9/131.
(22)    الموطأ مع المنتقى 5/32.
(23)    المنتقى 5/32.
(24)    الشرح الكبير مع الدسوقي 3/137.
(25)    المغني مع الشرح الكبير 4/336.
(26)    إعلام الموقعين 1/340.
(27)    مجموع فتاوى ابن تيمية 29/429.