لبنان على الخارطة: أزمة حدود أم أزمة وجود؟
15 رجب 1437
ربيع حداد

“ومِن أشد الظلمات وأعظمها في إفساد العمران: تكليفُ الأعمال وتسخيرُ الرعايا بغير حق. فإذا كُلفوا العملَ في غير شأنهم واتُّخذوا سُخْريًّا في معاشهم، بطَل كسبهم واغتُصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو مُتموَّلهم، فدخل عليهم الضرر، وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل هو معاشهم بالجملة، وإن تكرر ذلك أفسد آمالهم في العمارة، وقعدوا عن السعي فيها جملةً، فأدى ذلك إلى انتقاص العمران وتخريبه” – إبن خلدون/المقدمة

 

 

 

 

هذه المقدمة "الخلدونية" التي استقيتها من صاحب المقدمة في علم الاجتماع السياسي، تحمل تحليلاً موضوعياً وحكماً أخلاقياً في آن، ولا تتناقض مع ما طرحه الأوروبيون من موجبات العدالة والإنصاف وفق فكرهم الذي ابتدأ مع أفلاطون وأرسطو، وتتابَعَ مع فلاسفة القانون الطبيعي من أمثال هوبس وروسو، وتشكلَ مرة أخرى حول العدل وموجباته على يد كانط وماركس وماكس فيبر وغيرهم.

 

 

 

 

 

 وأجد نفسي هنا بموقفِ من يعتذر من القارىء لضرورة السقوط من علياء الفكر والطروحات المثالية إلى هوة الشأن اللبناني الآني، حيث يصاب المتابع لهذا الشأن أو يكاد، بالدوار- بل وبالغثيان- من سرعة توالي الأحداث والتطورات على كافة الأصعدة والملفات. ولا يمكن للعين أن تخطئ انحدارَ المستوى الأخلاقي المعنوي والمادي لطريقة التعاطي الرسمية والشعبية مع هذه الأحداث، والتي نستشف من خلالها مدى ضحالة تحملِ المسؤولية من قِبل من وُضِع على عاتقهم أن يكونوا "خدّامًا عموميين" أو Public Servants وفق العبارة الغربية التي تصف الموظفين الذي يعملون بالشأن العام، وعلى رأسهم من يحملون العبارات الطنانة الرنانة قبل النطق بأسمائهم، مثل أصحاب الدولة والسعادة والمعالي، أعاذنا الله من شرورهم. فالواقع اليومي للتطورات اللبنانية يمس الحياة اليومية للمواطن بأدق تفاصيلها، حيث أصبح الموت –بالنسبة للبعض- أفضل من الحياة، واستمرارها يوازي استمرار المأساة والألم، وكأني أردد مع الشاعر أبي الطيب "كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً .. وحسبُ المنايا أن يكُن أمانيًا".

 

 

 

 

 

إذا بدأنا بالصعيد الأمني مثلا، والذي يُعتبرُ من أوليات التقسيمات الحديثة للحاجات الإنسانية وفق ابراهام ماسلو Abraham Maslow، فإننا نرى المواطن اللبناني يحبس أنفاسَه متلفتاً يمنة ويَسرة بانتظار المفخَّخة القادمة، التي شكلت لفترة طويلة رسائلَ متبادلة بين أطرافٍ عدة، بعضُها محلي، والبعض الآخر إقليمي عابر للحدود. وفي حين بات هذا المسكين متأكداً أن بلده غدا صندوقَ بريد دموي، فإنّه لا يسمع إلا عن خُططٍ أمنية تزعم ضمان أمنه وكفالة سلامته، فإذا بها تستهدف فئةً دون فئة، وشريحةً من المجتمع دون أخرى ، مما يضاعف التوتر الداخلي ويفتح أبوابا ظن اللبنانيون أنهم أغلقوها ورموا مفاتيحها أو دفنوها منذ زمن. ونقف هنا أمام مُعضلةٍ عناوينها: "الأمن بالتراضي" و"الأمن إذا أمكن" و"الأمن على ناس وناس" وما شاكل من إبداعاتٍ سلطوية أتى بها أصحاب المعالي!

 

 

 

 

للبنان ميزةٌ أُخرى قلّ نظيرها في العالم- ما عدا كوريا الشمالية وإيران (المسماة إسلامية) ربما- هي مفاهيم التصدي والصمود، ومخلفات الحرب الباردة، حيث يتابع المواطن المغلوب على أمره مغامرات فريق طالما ملأ الدنيا خطاباتٍ نارية، نصّبَ نفسَه من خلالها وصيّا على الأخلاق والوطنية والحرية و... المقاومة.! فريقٌ لم يتورع عند أول امتحان عن توجيه السلاح "المقاوم" إلى صدور المواطنين، وتحولَ إلى سلاحِ "غدر" في قلب مجتمعه، وبات سلاحَ "احتلال" لعاصمة بلدٍ ادّعى الدفاع عنه، فظهرت حقيقة الماء على أنها سراب "لمقاومة" و"لممانعة" خطّت في أذهان الملايين صورًا مشوهةً وأجسادًا ممزقة، داخل لبنان وخارجه، وأوغلت في دماء ثوار سوريا.  فثورة أهل الشام عرّت حزب المقاومة ومحور الممانعة، وعرضته على حقيقته من دون شعارات التصدي والصمود، وكشفت سوءته، وأماطت اللثام عن وجهٍ كالح متعطش للدماء، يحركه سيدٌ قابع في قم أو في حارة حريك لا فارق، فالراية واحدة!

 

 

 

 

 

من مميزات لبنان أيضاً استفحال جرائم القتل وأعمال السرقة والاتجار بالمخدرات وشبكات الدعارة ومافيات السلاح العابر للحدود ولحواجز الجيش والذي بدأ يظهر في أيدي عصابات تدور في فلك "الحزب" الحاكم. فقد تعاظمت عمليات الخروج عن القانون وتسارعت وتيرتها إلى درجة غير مسبوقة، ما أدى إلى احتقانٍ قد يشكل انفجارُه طوفانا لا يبقي ولا يذر، ولعل الطوفان قد يكون خيراً من كثيرٍ من البشر.

 

 

 

 

وللبنان خاصيته على الصعيد الخدماتي الذي  بات أمثولةً لفساد السلطة القائمة. فلَإن كان حكمُ الميليشيا وتسلطُ السلاح وسطوةُ القوى الإقليمية هو الذريعة التي قد تُقدَّمُ من قبل الكثيرين لعدم قدرتهم على تطبيق القانون، فان الفشل الدولتي في لبنان بلغ أوجه مع فضيحة النفايات التي حاصرت الناس وهددت أمنهم الصحي والغذائي ومازالت، بعد تحولها إلى هاجس آخذٍ بالتجلي يوما بعد يوم على شكل أمراض وأوبئة لم نكن نسمع بها في بلدٍ  يُعتَبَرُ "جنة الله على الأرض". وتواكَبَ ذلك مع انعدام الخدمات الأساسية للحياة، حيث يستمر انقطاع الماء والكهرباء، حتى غدا داءً مزمنًا لم يعد اللبنانيون يخوضون فيه إلا للتندر والسخرية. ويكتمل المشهد السوريالي مع  الازدحامات المترافقةِ مع قوانين السير المثيرة للضحك، والتي تُطبَّقُ على أناس ولا تُطَبَّقُ على آخرين، إضافة إلى الموت البطيء الذي يعاني منه القطاع السياحي بأكمله، وشلل القطاع الخدمي بالوزارات والبلديات في طول لبنان وعرضه، وتُسَجَّل مؤشراتٌ واقعية على عمق الأزمة الحالية.

 

 

 

 

وإذا كان أصلُ المشكلة سياسياً فالحل لا يبدو في متناول اليد، مع عجز جميع المبادرات الداخلية والخارجية أن تنتج رئيسا جديدا للبنان، مع أن "الطلق" حمِيَ عدة مرات وهُرِعَت الأطرافُ إلى غرفة الولادة لتصطدم بالجليد الإيراني وعدم اكتراث حزبها الحاكم في لبنان، بل حرصه على إبقاء الأمور معلقة، فوجود رئيس للجمهورية -وإن كان من أنصاره- قد يعرقل تحكمه في قرار لبنان الداخلي والخارجي ويضع حدا لتغوُّلِه الأمني والسياسي.

 

 

 

 

هذه المقدمةُ الطويلة في استعراض الوقائع القاسية للبنان كانت ضرورية لأصل بالقارىء إلى نتيجة حتمية وخطيرة: نتيجة ترددَت مؤخرا على أكثر من لسان وفي أكثر من مقال وبأشكال مختلفة، وهي -بكل بساطة وصراحة- أن الجمهورية اللبنانية كما نعرفها أضحت على شفير الزوال وإعادة الإخراج. فكما تمَّ إعلانُ دولة لبنان الكبير من قِبَل سلطات الانتداب الفرنسي عام 1920م إيذانا بتطبيق اتفاقية سايكس- بيكو المشؤومة ،كذلك ستتِمُّ إعادةُ إخراج لبنان وتوزيعه على شكل مكافآت أو جوائز ترضية على أفرقاء شتى.

 

 

 

فالإرادات الدولية التي عملت على توظيف تنظيم الدولة الإسلامية (المسمى داعش) وغذّته بالسلاح والمال بطرق غير مباشرة -وإن كانت مفضوحة- أصبحت ترى في لبنان عبئا ماديا ومعنويا، ومركزَ تهديدٍ لبعض مصالحها وتحالفاتها الإقليمية الجديدة. وبالطبع لا يمكن الحديث عن إخراجٍ جديدٍ للبنان بمعزِلٍ عن مجرَيات الأحداث في الداخل السوري، أو مصالح الكيان الصهيوني وأطماعه التوسعية.

 

 

 

 

 

وإذا كان المفهوم الغربي للحدود قد بدأ فعليًا مع مؤتمر وستفاليا وأَّسَّسَ للعلاقات الدولية القائمة على رسم خطوط السيادة لكل كيان سياسي، إذن فما المانع من خلط الأوراق جذريا في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، وهذا ما شهدناه مرات عدة عقب كل صراع دولي.
اليوم أيضاَ تبرز قوى إقليمية عظمى متمثلة في تركيا وإيران، وإعادة تموضع استراتيجي للغرب بشقيه الأمريكي والروسي، وكل ذلك من غبار الحرب السورية وضبابية المعركة على أرض العراق. وإذا كانت الحدود القديمة قد رُسِمَت باعتباراتٍ طائفية ومذهبية حين خطتها يدُ المستعمر المنتصر على الدولة العثمانية قبل قرن من الزمن، فلا بد من إعادة رسمها وفق المعطيات الجديدة، وبحسب توزيع القوى المرتبط بذلك، تبعا لكل فريق ومتانة علاقاته وصلاته الإقليمية أو حجم الدور المرسوم له دولياً.

 

 

 

 

 

إسقاط هذه المفاهيم الجيوسياسية على لبنان، مع التحليل المشبَعِ بفهم التاريخ ، يستوجب النظر إلى مناطقَ بعينها، ستشكل منطلقاً لهكذا مشاريع تقسيمية. وعليه فإن عين داعش على عكار (كما عنونت جريدة "الأخبار" اللبنانية) والشمال، وعلى منفذٍ بحري استراتيجي وحيوي ومرفأ محتَمَلٍ لدولة البغدادي. كما أن عين حزب الله على العاصمة بيروت مع ما تملكه من مركزية سياسية ومعنى تاريخي ورمز معنوي. وبالطبع لإسرائيل عين على الجنوب مع ما يمثله من ضمانات أمنية وعمق عسكري ومصدر مائي حيوي .
إذن  فالمصالح المتصارعة على الكيان اللبناني واضحة، وهي ترمي إلى تناتشه إلى حصص، وهو الذي قيل فيه: "لبنان لن يصبح وطناً، بل سيبقى مشروع وطن".

 

 

 

 

يبقى الخاسر الأكبر في المنظومة الجديدة هم أهل السنة بالدرجة الأولى، حيث يتم عزلهم عن محيطهم في سوريا وما بعدها، ويتم إخضاعُهُم بالقوة لإرادة الولي الفقيه، ويُستَبعَدون تماما عن مراكز الحكم والتأثير، بل يُحَوَّلون إلى مجتمع مضطَّهَد. ثم يأتي الموارنةُ بالدرجة الثانية من حيث الضرر ودفع الأثمان، وهم الذين سيجدون أنفسهم أمام الأمر الواقع: فإما أن ينصاعوا، أو يهاجروا في مناكب الأرض شرقا وغربًا، فتنتهي معهم المسألة الشرقية التي أقلقت الكثيرين. وبهذا يُسدَلُ الستار عن فصلٍ حافل من تاريخ المنطقة، ويبدأ الإعداد لفصل جديدٍ أكثر سخونة في تفاصيله، لكنه برد وسلام على مصالح اللاعبين الأساسيين فيه، الذين سيشرعون مباشرة في ترسيخ حدوده الجديدة التي رُسِمَت بالدم، لغير صالح أصحاب الدم.

 

 

المصدر : لبنان 360