اقرأ ولكن باسم ربك!
17 محرم 1443
إبراهيم الأزرق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد فإنه قد درج كثير من الناس على الحض على قراءة أي شيء والاستكثار من القراءة، وكثيراً ما يأصِّلون لذلك بآية العلق: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، وربما  يذكر بعضهم مع ذلك من الإحصائيات المستفزة للقراءة من نحو ما يذكر في معدل قراءة الفرد العربي مقارنة بغيره، ثم يتحسرون فيقولون: "متوسط القراءة عربياً ربع صفحة للفرد سنوياً، بينما تصل معدلات القراءة في أميركا إلى 11 كتاباً للفرد سنوياً، وفي بريطانيا إلى سبعة كتب، وهذا يظهر مدى التدني الذي وصلت له معدلات القراءة في الوطن العربي وفقاً لأحدث الدراسات"! هذا مع أنه ليس لدى الأمريكان كتاب منزل فيه (اقرأ)، ولو وجد فليس ذلك أول ما أنزل! إلى آخر ما يقال في هذه المعاني.

 

والحق أن الأمر في الآية بالقراءة مطلق، يصدق ببعض صُوَره، وقد عُلم المراد بالقراءة في هذا السياق، وذلك أن للعلماء في ذلك المقروء وجهان:

"أحدهما: أن معناه اقرأ القرآن مفتتحاً باسم ربك، أو متبركاً باسم ربك، وموضع باسم ربك نصب على الحال ولذا كان تقديره: مفتتحاً، ..

 

والوجه الثاني: أن معناه اقرأ هذا اللفظ وهو باسم ربك الذي خلق فيكون باسم ربك مفعولاً وهو المقروء"، وحاصل ذلك أن الأمر هنا بقراءة القرآن، أو هو أمر بقراءة آية مخصوصة منه. وليس أمراً بقراءة كل ما سودته المحابر، أو قذفت به المطابع! فقوله: (اقرأ) لا يتعلق بذلك! وغاية ما هنالك أن تفيد إشارته التنويه بقراءة النافع. وأنفع ذلك كتاب الله تعالى! فلا ترث  لأمة (اقرأ) إذ لم تكن وفق إحصاءاتهم تقرأ، وأنت لا تقرأ الكتاب الذي أنزلت فيه (اقرأ)! بل ارث لنفسك! وابك على إهدارك الأوقات في قراءات هي دون إن قدر أنها نافعة! يا مثقف الحسرة! دعنا من قارئ الجهالة!

 

إن الذي يتأمل الأمر الربّاني بالقراءة في القرآن يجده في ثلاث سور: خمسة مواضع، الموضع الأول: ما تقدم في سورة العلق، ثم بعده ما ثُنِّي فيها: (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم)، والقراءة هذه هي تلك وتكرار الأمر تأكيد، ومقصوده تأنيسه صلى الله عليه وسلم.

 

وأما السورة الثانية فسورة المزمل وكذلك إنما كان الأمر فيها بقراءة القرآن الكريم، وذلك في موضعين بآية واحدة، هي قوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20]، فسواء أكنت فارغاً أم مشغولاً أنت مأمور بالقراءة، ولكنها قراءة ما تيسر من القرآن!

 

وأما الموضع الخامس، فهو أمر بالقراءة موجه إلى الأعجمي والعربي، إلى المسلم والكافر، إلى البر والفاجر، إلى الأُمِّي والقارئ الكاتب! أمر بالقراءة في مجمع مشهود، أمر بالقراءة في عرصات عجيبة! أمر بالقراءة خارج نطاق الدنيا، بعد أن تولي أدبارها، وتصرم أيامها، ويفوت أوانها، أمر بالقراءة في مواقف القيامة! (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 14]. إنها قراءة عجيبة وعجيب أثرها على النفوس! فمن مستبشر فرح صائح: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَه) [الحاقة: 19]، ومن مغتم نادم ولات ساعة مندم مدندن والغصة تملأ جوفه: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) [الحاقة].. وكثير من أهل الحسرة هؤلاء كانوا أصحاب علوم وفهوم، كانوا قُرَّاءً! تعجبك صفوفهم المتصلة على أبواب معارض الكتاب والمكتبات! كانت معدَّلات القراءة عندهم أكثر من عشرة كتب يقرؤها أحدهم في العام! لكن لم يكن من تلك الكتب كتاب الله تعالى! لم يكن فيها الذكر الحكيم، والقرآن العظيم، لم يكن فيها ما يقتبس منه، ويذيع حكمه وأحكامه.. ربما كانت روايات وأبيات وأدبيات! ربما كانت الرسائل أو المقابسات! وربما.. وربما.. ربما كانت كتب علوم نفعتهم في الدنيا ثم بطل أمرها لما ولّت حَذَّاءً! ربما كانت كتب تطوير وإدارة ومهارة وتخطيط ذهبت هباء! لم يكن في حساب مؤلفيها وقاية (القُرَّاء)! أعظم الأخطار، وأكبر الخسار والبوار! (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر: 15]، (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) [الشورى: 45]!

 

إنّ طريق النجاة من ذلك المآل شارعة اليوم! وهي القراءة، لكنها القراءة التي تحب أن تُثْبَتَ في صحيفتك، القراءة التي تُثَقِّل موازينَك؛ فلا تطيشَ بل تطير بها فرحاً يوم يقال لك: (اقرأ كتابك)! إنها قراءة لأَجَلِّ كتاب، من أجل كاتب، في أجل الموضوعات، ثم هي مع ذلك عذبة لطيفة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)، يقرؤه بتدبر فيفوز!

 

وعوداً على بدء فإني (لا) أعجب يوم أجدهم يقولون: إن الشعوب العربية في ذيل قائمة الشعوب القارئة! بمتوسط ربع صفحة في العام! ويزعمون أن ذلك وفقاً لأحدث الدراسات! وصدقوا! فقد عرفت أن أحدث الدراسات كثيراً ما تكون هزيلة، كما أن أعتقها كثيراً ما تكون متينة! وما تلك الدراسة إلاّ قشة في غثاء كثير من الدراسات الحديثة الركيكة التي لم تبن على هدى، وإن بهرجوها، فقد علمتم أن كل مسلم يقرأ من كتاب الله تعالى أكثر مما قالوا في العام! بل عامتهم يختمونه ولو مرة في رمضان، بل كثير منهم يختمونه كل شهر مرة، بل في واقعهم المعاصر من يجاوز ذلك!

 

أما على صعيد الخاصة وطلاب العلوم الشرعية فأذكر أني أحصيت لأحد مشايخنا من يقرأ عليه نحواً من أربعين كتاباً في العام! وأغلب ظني أن هؤلاء لا يُحْسَبون في تلك الدراسات الحديثة! لا لكونهم يقرأون كُتُباً قديمة، فهم يعدون من يقرؤون الإنيادة لبوبليوس، أو الإلياذة لهوميروس، ويعتدون بكتب هوجو، وغوته، وشكسبير، ويعدون من يقرؤون للجاحظ وأبي حيان، وأضرابهم مما لا تقرب كتبهم إلى جنّة وربما تقرِّب من نار!

 

أعاذني الله وإياك من أن نكون من مثقفي الجحيم، وجعلني وإياك من القارئين الذين ينتفعون بقراءاتهم في الدنيا والدين، وأن يَمُنَّ علينا بخير ذلك فيجعلنا من التالين لكتابه، الحالين المرتحلين فيه، القائل فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [فاطر].