الاستعانة بالكفار في قتال الكفار
22 جمادى الأول 1437
عبدالعزيز بن باز رحمه الله

ابن باز

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين وقائد المجاهدين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: -
فقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار، على قولين:
أحدهما المنع من ذلك. واحتجوا على ذلك بما يلي: -
أولا: ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - «أن رجلا من المشركين - كان معروفا بالجرأة والنجدة - أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - مسيره إلى بدر في حرة الوبرة فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع فلن أستعين بمشرك، قالت: ثم مضى حتى إذا كنا في الشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال له أول مرة، فقال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع فلن أستعين بمشرك، ثم لحقه في البيداء، فقال مثل قوله، فقال له: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، قال: فانطلق (صحيح مسلم الجهاد والسير (1817)، سنن الترمذي السير (1558)، سنن أبو داود الجهاد (2732)، سنن ابن ماجه الجهاد (2832)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 149)، سنن الدارمي السير (2496).)» اهـ.
واحتجوا أيضا بما رواه الحاكم في صحيحه من حديث يزيد بن هارون أنبأنا مستلم بن سعيد الواسطي عن خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب عن أبيه عن جده خبيب بن يساف قال: «أتيت أنا ورجل من قومي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزوا، فقلت: يا رسول الله: إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لم نشهده معهم، فقال: أسلمتما؟ فقلنا: لا، قال: فإنا لا نستعين بالمشركين قال: فأسلمنا وشهدنا معه. . . الحديث ( مسند أحمد بن حنبل (3/ 454).)»، قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وخبيب صحابي معروف. . اهـ. ذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية ص 423 ج 3 ثم قال: ورواه أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم والطبري في معجمه من طريق ابن أبي شيبة. قال في التنقيح: ومستلم ثقة وخبيب بن عبد الرحمن أحد الثقات الأثبات، والله أعلم.
ثم قال الزيلعي في حديث آخر: روى إسحاق بن راهويه في (مسنده): أخبرنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو بن علقمة عن سعيد بن المنذر عن أبي حميد الساعدي قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد حتى إذا خلف ثنية الوداع نظر وراءه فإذا كتيبة حسناء، فقال: " من هؤلاء "؟. قالوا: هذا عبد الله بن أبي ابن سلول ومواليه من اليهود، وهم رهط عبد الله بن سلام، فقال: " هل أسلموا "؟ قالوا: لا، إنهم على دينهم، قال: " قولوا لهم: فليرجعوا، فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين» انتهى. ورواه الواقدي في كتاب المغازي، ولفظه: «فقال: " من هؤلاء "؟ قالوا: يا رسول الله: هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا ننتنصر بأهل الشرك على أهل الشرك». انتهى. قال الحازمي في كتاب الناسخ والمنسوخ: وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة: فذهب جماعة إلى منع الاستعانة بالمشركين، ومنهم أحمد مطلقا. وتمسكوا بحديث عائشة المتقدم، وقالوا: إن ما يعارضه لا يوازيه في الصحة، فتعذر ادعاء النسخ. وذهبت طائفة إلى أن للإمام أن يأذن للمشركين أن يغزوا معه، ويستعين بهم بشرطين: أحدهما: أن يكون بالمسلمين قلة، بحيث تدعو الحاجة إلى ذلك.
والثاني: أن يكونوا ممن يوثق بهم في أمر المسلمين. ثم أسند إلى الشافعي أن قال: الذي روى مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد مشركا أو مشركين وأبى أن يستعين بمشرك كان في غزوة بدر.
ثم إنه - عليه الصلاة والسلام - استعان في غزوة خيبر بعد بدر بسنتين بيهود بني قينقاع، واستعان في غزوة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك، فالرد الذي في حديث مالك إن كان لأجل أنه مخير في ذلك بين أن يستعين به وبين أن يرده كما له رد المسلم لمعنى يخافه - فليس واحد من الحديثين مخالفا للآخر، وإن كان لأجل أنه مشرك فقد نسخه ما بعده من استعانته بالمشركين، ولا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا أخرجوا طوعا ويرضخ لهم، ولا يسهم لهم، ولا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أسهم لهم، قال الشافعي: ولعله - عليه السلام - إنما رد المشرك الذي رده في غزوة بدر رجاء إسلامه، قال: وذلك واسع للإمام أن يرد المشرك ويأذن له. انتهى. وكلام الشافعي كله نقله البيهقي عنه. . اهـ. وقال النووي - رحمه الله - في شرحه لصحيح مسلم ص 198، ص 199 ج 12 ما نصه: قوله: «عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة (صحيح مسلم الجهاد والسير (1817)، سنن الترمذي السير (1558)، سنن أبو داود الجهاد (2732)، سنن ابن ماجه الجهاد (2832)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 149)، سنن الدارمي السير (2496).)» هكذا ضبطناه بفتح الباء، وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم، قال: وضبطه بعضهم بإسكانها، وهو موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فارجع فلن أستعين بمشرك ( صحيح مسلم الجهاد والسير (1817)، سنن الترمذي السير (1558)، سنن أبو داود الجهاد (2732)، سنن ابن ماجه الجهاد (2832)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 149)، سنن الدارمي السير (2496).)» وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان بصفوان ابن أمية قبل إسلامه، فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه، وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين، وإذا حضر الكافر بالإذن رضخ له ولا يسهم، والله أعلم. . اهـ.
وقال الوزير ابن هبيرة في كتابه: الإفصاح عن معاني الصحاح ج 2 ص 286 ما نصه: واختلفوا: هل يستعان بالمشركين على قتال أهل الحرب، أو يعاونون على عدوهم؟: فقال مالك وأحمد: لا يستعان بهم ولا يعاونون على الإطلاق. واستثنى مالك: إلا أن يكونوا خدما للمسلمين فيجوز، وقال أبو حنيفة: يستعان بهم ويعاونون على الإطلاق، ومتى كان حكم الإسلام هو الغالب الجاري عليهم، فإن كان حكم الشرك هو الغالب كره، وقال الشافعي: يجوز ذلك بشرطين:
أحدهما: أن يكون بالمسلمين قلة وبالمشركين كثرة، والثاني: أن يعلم من المشركين حسن رأي في الإسلام وميل إليه، فإن استعين بهم رضخ لهم ولم يسهم لهم، إلا أن أحمد قال في إحدى روايتيه يسهم لهم، وقال الشافعي: إن استؤجروا أعطوا من مال لا مالك له بعينه، وقال في موضع آخر: ويرضخ لهم من الغنيمة، قال الوزير: وأرى ذلك مثل الجزية والخراج. . اهـ.
القول الثاني: جواز الاستعانة بالمشركين في قتال المشركين عند الحاجة أو الضرورة. واحتجوا على ذلك بأدلة منها: قوله جل وعلا في سورة الأنعام {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (سورة الأنعام الآية 119) الآية، واحتجوا أيضا بما نقله الحازمي عن الشافعي - رحمه الله - فيما ذكرنا آنفا في حجة أصحاب القول الأول، وسبق قول الحازمي - رحمه الله - نقلا عن طائفة من أهل العلم أنهم أجازوا ذلك بشرطين: -
أحدهما: أن يكون في المسلمين قلة بحيث تدعو الحاجة إلى ذلك.
الثاني: أن يكونوا ممن يوثق بهم في أمر المسلمين، وتقدم نقل النووي عن الشافعي أنه أجاز الاستعانة بالمشركين بالشرطين المذكورين وإلا كره، ونقل ذلك أيضا عن الشافعي الوزير ابن هبيرة، كما تقدم.
واحتج القائلون بالجواز أيضا بما رواه أحمد وأبو داود عن ذي مخمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ستصالحون الروم صلحا آمنا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم فتنصرون وتغنمون (سنن أبو داود الجهاد (2767)، سنن ابن ماجه الفتن (4089)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 409))» الحديث ولم يذمهم على ذلك، فدل على الجواز وهو محمول على الحاجة أو الضرورة كما تقدم.
وقال المجد ابن تيمية في المحرر في الفقه ص 171 جـ 2 ما نصه: (ولا يستعين بالمشركين إلا لضرورة، وعنه: إن قوي جيشه عليهم وعلى العدو ولو كانوا معه ولهم حسن رأي في الإسلام جاز وإلا فلا، انتهى. وقال الموفق في المقنع جـ 1 ص 492 ما نصه: ولا يستعين بمشرك إلا عند الحاجة).
وقال في المغني ج 8 ص 414، ص 415 (فصل) ولا يستعان بمشرك، وبهذا قال ابن المنذر والجوزجاني وجماعة من أهل العلم وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به، وكلام الخرقي يدل عليه أيضا عند الحاجة، وهو مذهب الشافعي، لحديث الزهري الذي ذكرناه وخبر صفوان بن أمية، ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به، لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى.
ووجه الأول: ما روت عائشة - رضي الله عنها - قالت: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر حتى إذا كان بحرة الوبرة أدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جرأة ونجدة، فسر المسلمون به، فقال: يا رسول الله: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك. قالت: ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم قال: فانطلق (صحيح مسلم الجهاد والسير (1817)، سنن الترمذي السير (1558)، سنن أبو داود الجهاد (2732)، سنن ابن ماجه الجهاد (2832)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 149)، سنن الدارمي السير (2496))» متفق عليه. ورواه الجوزجاني وروى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن خبيب قال: «أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزوة أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا: إنا لنستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، قال: فأسلمتما؟ قلنا: لا، قال: فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين (مسند أحمد بن حنبل (3/ 454).إلا لضرورة، وذكر جماعة: لحاجة، وعنه: يجوز مع حسن رأي فينا، زاد جماعة وجزم به في المحرر: وقوته بهم بالعدو.)» قال ابن المنذر: والذي ذكر أنه استعان بهم غير ثابت. . اهـ.
وقال الحافظ في التخليص بعد ما ذكر الأحاديث الواردة في جواز الاستعانة بالمشركين والأحاديث المانعة من ذلك ما نصه: ويجمع بينه - يعني حديث عائشة - وبين الذي قبله - يعني حديث صفوان بن أمية - ومرسل الزهري بأوجه ذكرها المصنف، منها: وذكره البيهقي عن نص الشافعي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرس فيه الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم، فصدق ظنه، وفيه نظر، من جهة التنكير في سياق النفي. ومنها: أن الأمر فيه إلى رأي الإمام، وفيه النظر بعينه، ومنها: أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها، وهذا أقربها وعليه نص الشافعي.
وقال في الفروع ج 6 ص 205 ما نصه: ويكره أن يستعين بكافر>
وقال الصنعاني - رحمه الله - في سبل السلام ج 4 ص 49، ص 50 على شرحه لحديث عائشة - رضي الله عنها -: (ارجع فلن أستعين بمشرك) ما نصه: والحديث من أدلة من قال: لا يجوز الاستعانة بالمشرك في القتال، وهو قول طائفة من أهل العلم، وذهب الهادوية وأبو حنيفة وأصحابه إلى جواز ذلك، قالوا: لأنه - صلى الله عليه وسلم - استعان بصفوان بن أمية يوم حنين، واستعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم. أخرجه أبو داود والترمذي عن الزهري مرسلا، ومراسيل الزهري ضعيفة، قال الذهبي: لأنه كان خطاء، ففي إرساله شبهة تدليس، وصحح البيهقي من حديث أبي حميد الساعدي أنه ردهم، قال المصنف: ويجمع بين الروايات بأن الذي رده يوم بدر تفرس فيه الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم، فصدق ظنه، أو أن الاستعانة كانت ممنوعة فرخص فيها، وهذا أقرب، وقد استعان يوم حنين بجماعة من المشركين تألفهم بالغنائم، وقد اشترط الهادوية أن يكون معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام، وفي شرح مسلم: أن الشافعي قال: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة استعين به وإلا فيكره، ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعا، لاستعانته - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أبي وأصحابه، وهذا آخر ما تيسر نقله من كلام أهل العلم. والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد