22 شعبان 1437

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته - لا أعرف أبدا كيف أتعامل مع أهلي، أشعر أنّي أعيش وحدي، ما أحسست بهم ولا بوجودهم حولي. وعندما يأتي خاطب أرفضه بإصرار وأرفض كلّ من يتكلّم معي في الموضوع.. إنّي في أشدّ التعب والقلق وأبحث عن حلّ. شكرا

أجاب عنها:
سميحة محمود

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أمّا بعد.
نرحّب بكِ على هذه الصفحة المباركة، وندعو الله سبحانه وتعالى أن يصلح حالك، ويفرّج كربك ويوفّقك لما يحبّ ويرضى، كما نشكرك على حسن ظنّك بموقعنا الكريم، وأسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق في الردّ على رسالتك.
ابنتي الحبيبة.. رسالتك مختصرة جدّا تحتاج إلى شرح وتفصيل وسوف يصعب علينا الحكم في شكواكِ دون وصول توضيحات من قبلك، فكنت أودّ أن تذكري صورة ولو مختصرة لأسلوب التعامل داخل أسرتك، حادثة حدثت شعرت من خلالها بالوحدة وعدم الاهتمام من جانب أهلك..كما لم أفهم، هل تقصدين بأهلك والدك أم والدك ووالدتك؟ أم الأهل يشمل أيضا إخوتك؟ وما هي طبيعة أهلك؟، هل هم من النوع العصبي الذي لا يقبل معارضة أو نقاشا؟ ما هي ردّة فعلك تجاه أسلوب تعاملهم؟ هل النقاش بينك وبينهم يجعلك تتطاولين عليهم وتغضبينهم؟ هل ما زلت تدرسين، أم أنهيت دراستك؟ هل تعملين، وإن كنت تعملين ما هي طبيعة عملك؟ أيضا ذكرت أنّه كلّما يتقدّم لك خاطب ترفضيه، فهل الخاطب يتقدّم لك أم يتقدّم إلى أهلك طالبا الزواج منك؟ ولماذا ترفضين كلّ خاطب، هل هناك أسباب مقنعة للرفض؟ أم أنّ رفضك لمجرّد الرفض؟ وما موقف أهلك من هذا الرفض؟ ما أتوقّعه من فتاة ليست سعيدة داخل أسرتها، المبادرة بقبول أوّل خاطب يتقدّم إليها هربا من هذا الجوّ الكئيب، أليس كذلك؟ أمّا أنّك ترفضين دون مبرّر! فهذا أمر يحتاج منك إلى تفسير!
ما أتوقّعه لفتاة تعاني مثل ما ذكرت أن تتمنّى تكوين أسرة سعيدة ومستقرّة مترابطة خلاف أسرتها التي عجزت عن التعامل معها (لا أعرف كيف أتعامل مع أهلي – أحسست أنّي وحدي)! أم أنّك تخشين من تكرار سيناريو مزعج ربّما يكون بسبب كثرة المشاجرات بين والديك؟ أم أنّك ترين في والدتك صورة المرأة المقهورة والمغلوب على أمرها التي يعاملها زوجها معاملة سيّئة، فتخشين تكرار هذا السيناريو؟ كلّ ما ذكرتُه مجرّد احتمالات.. فرسالتك المختصرة جدّا تجعلني أضع مجرّد احتمالات وربّما الحقيقة غير كلّ ما ذكرت. وعموما مهما كانت الأحوال داخل أسرتك، نوصيك بالصبر والمصابرة، والصبر يحتاج إلى جهد كبير للاستمرار عليه، ولن تستطيعي ذلك إلاّ بالاستعانة بالله، وبالوسائل الممكنة التي نوصيك بها.
ابنتي المؤمنة.. سأذكّرك بمكانة الوالدين في الإسلام، فنحن من وقت لآخر نحتاج إلى التذكرة (وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين). فالوالدان هما أساس الوجود بعد الله تعالى، ولهما الفضل الكبير على الإنسان، وقد رفع الإسلام من قدر الوالدين، وجعل هذه المنزلة تلي منزلة الإيمان بالله قال الله تعالى: (واَعبُدُوا الَّلهَ وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً وَبالوَالِدَينِ إِحسَاناً)، وليس هناك أحقّ بالبرّ والإحسان في المعاملة من الوالدين، قال الله تعالى:{وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه وبالوالدين إحسانًا. إمّا يبلغنّ عندك الكِبر أحدهما أو كلاهما فلا تقلْ لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا واخفض لهما جناح الذلِّ من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربّياني صغيرًا} ولهذا يُسنّ طاعتهما في كلّ شيء إلاّ في معصية الله. هذا باختصار شديد مكانة الوالدين. ومن الخطر العظيم أن تتعاملي مع والديك على أنّهما ندّ لك ويجرّك الشيطان للعقوق، فعقوق الوالدين من أكبر الكبائر، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "كلّ الذنوب يؤخِّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلاّ عقوق الوالدين فإنّه يعجّل لصاحبه" يعني العقوبة في الدنيا قبل يوم القيامة..
ابنتي الفاضلة.. كثير من الأبناء نجدهم يبالغون في نقد الأهل ورمي التبعة عليهم، والقليل من ينظر إلى عيوبه، فهل يا غالية جلست جلسة محاسبة ومكاشفة لتفتّشي في أسلوب تعاملك مع أهلك وتبحثي عن سبب إهمال أهلك لك؟ هل ردود أفعالك مع أهلك تجعلهم يبتعدون عنك اتّقاء تجاوزك لهم؟ حقيقة، يحتاج كلّ منّا إلى جلسة مراجعة، فيعترف بخطئه إن أخطأ ويعتذر منهم ويقبّل أيديهم ويبدأ صفحة جديدة معهم.
أنت في حاجة إلى دراسة فقه النفس، لأنّه حين يفقه الإنسان نفسه، سيسهل عليه معرفة نفوس الآخرين وخاصّة الأهل أو أقرب المحيطين به، فو الله إنّ التماس رضا الأهل والصبر على أذاهم ورعايتهم والمبالغة في التودّد إليهم، سيجعل الحياة أكثر إشراقا، وسيغمرك والداك بالدعوات الصالحات المباركات. لماذا لا تتذكّرين المواقف الطيّبة من أهلك وتضعينها أمام عينيك؟ ولماذا لا تغضّين الطرف عن كلّ ما لا يعجبك في والديك؟ هل حاولت إذابة تلك القشرة الصلبة التي تفصلك عنهما وأذبتها بتعاملك معهما باللين (وَقُل لَّهُمَا قَولاً كَرِيماً) وجميل التودّد إليهما، فهذه القشرة ستذوب وستجدين أناسا غاية في الطيبة والجمال.. جرّبي فما أنصحك به جرّبه الكثير غيرك ووجد نتيجة مبهرة.
ابنتي العاقلة..وسائل الإعلام والأفلام والبرامج المختلفة أحدثت قصورا كبيرا في تعامل الأبناء مع الأهل، حتّى صار التعامل المصبوغ بصبغة العقوق هو السائد، فتجدين الأبناء –وأقصد بالأبناء الذكور والإناث – يحفظون عن ظهر قلب النصوص الشرعيّة التي تحثّهم على برّ الأهل وأداء حقوقهم والتأدّب معهم، ومع الأسف الشديد نجدهم على أرض الواقع يناقضون ما عرفوا وما حفظوا، فيغلظون مع الأهل ويسيئون الأدب ويجادلونهم بحماقة، فما السبب في هذا الانفصام؟؟ لهذا أوصيك يا بنيّتي وكلّ الأبناء بانتقاء الألفاظ المهذّبة عند الحديث معهم، ونداؤهم بأجمل الأسماء، وأذكّرك بإبراهيم الخليل عليه السلام في ندائه لأبيه الكافر (يا أبتِ)، فمناداة الأب والأمّ ب يا أبي، ويا أمّي تشعرهما بالودّ والقرب. لماذا لا يصاحب السلام عليهما تقبيل اليد والرأس؟ ولماذا لا يكون الحديث معهما بلطف وتذلّل وخفض الصوت والنظر إليهما بحبّ وانتقاء مفردات الكلمات التي تشعرهما بالاحترام والحبّ؟ لماذا لا تفكّرين من وقت لآخر في جلب الهدايا لهما، فالهدايا لها أثر كبير في النفس؟ هل فكّرت يوما يا قرّة العين في تفقّد أحوال أهلك، بمعنى هل لهما شكوى من أمر معيّن؟ هل يحتاجان إلى شيء؟ هل هما مريضان يحتاجان إلى الذهاب إلى الطبيب؟ هل فكّرت قبل مغادرتك المنزل أن تسأليهما إن كانا يحتاجان إلى شيء تحضرينه لهما من الخارج؟ هل فكّرت يوما في الجلوس والحديث معهما عن أيّ شيء؟ ربّما سيندهشان في أوّل الأمر لتغيّر سلوكك ولكن سيسعدان بهذا القرب. هل طلبت منهما الدعاء لك وأشعرتهما أنّك في أمسّ الحاجة لبركة دعائهما؟ اعلمي –ابنتي الحبيبة – أنّ الحياة ستمرّ وأنّ أهلك اليوم معك وغدا سيتغيّر الحال، فبادري قبل فوات الأوان واغتنمي هذه الفرصة قبل الندم.. فيوما ستقولين كثيرا من مواقف أهلي كانت لصالحي، فكم أتمنّى أن أقول لهما لقد اشتقت إليكما كثيرا!!
وفي الختام.. سعدت بوجودك معنا ونحن في انتظار جديدك فطمئنينا.