أيهما أفضل للمسافر الصلاة في الفلاة أم الجماعة في المساجد؟
18 ربيع الثاني 1437
فهد بن يحيى العماري

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

وبعد: فهذه إشارة يسيرة في مسألة علمية فقهية أحببت التنبيه عليها، والجواب عما حصل من لبس وتشويش واضطراب فيها، وفق النصوص الشرعية، وكلام أهل العلم بشيء من الاختصار وعدم الإطالة، والعلم بالمذاكرة والمناقشة، ومذاكرة ومناقشة الأقوال تكون بأدب الحوار والنقاش، وهو مطلب شرعي وأخلاقي وسلوكي وحضاري، دون الخروج عن مناقشة الفكرة إلى الاتهامات والتجهيل، التي وللأسف نجدها في كثير من النقاشات، فيتحول الخلاف العلمي إلى خلاف شخصي، فتنزع البركة والنفع، ويزهد الناس فيه ويعرضوا، ويقل الإخلاص ويستجلب الشيطان والهوى في صورة الدين والمصلحة.

 

وبعد: فقد انتشر في هذه الفترة مقطع تداوله الناس عبر شبكات التواصل نحى فيه صاحبه إلى أن الأفضل للمسافر ترك الصلاة في المساجد، والصلاة لوحده في الفلاة، وحين انتشار هذا المقطع في أوساط الناس وطلبة العلم أشكل هذا الرأي عليهم واستغربوه، وبدأ الناس يسألون عن صحة الحديث، ورأي صاحب المقطع واستدل وفقه الله بالحديث التالي:

قال أبوداود: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا أبو معاوية، عن هلال بن ميمون، عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلاة في جماعة تعدل خمسا وعشرين صلاة، فإذا صلاها في فلاة، فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة"
قال أبو داود: قال عبد الواحد بن زياد في هذا الحديث: "صلاة الرجل في الفلاة تضاعف على صلاته في الجماعة" وساق الحديث.

 

فاستعنت بالله وكتبت جواباً مختصراً على عجل وعرضته على طلاب العلم فاستحسنوه، وملخصه ما يلي:

أولاً: كان من الأفضل أن يقوم صاحب المقطع بذكر من ذهب إلى هذا الرأي الذي توصل إليه من أهل العلم سواء المتقدمين أو المتأخرين لاسيما أننا في عصر قد بليت الأمة بالإغراب في الفتاوى -من أشخاص لا يعرف عنهم العلم ولا يعرفهم العلماء - التي ربما تكون خرقت إجماع أهل العلم فلم يقل بها أحد من أهل العلم أو تبع صاحبها عالماً خالف ما عليه عامة أهل العلم قاطبة وكلاهما عند أهل الفقه ينطبق عليه تعريف القول الشاذ. 

 

ثانياً: الحديث سكت عنه أبوداود وابن حجر، وصححه الزيلعي ومن المتأخرين الألباني رحمهم الله، وهي حين التأمل للرواية فهي مخالفة لرواية الثقات، وانفرد بها راويه أبومعاوية، وهو متكلم فيه، وقيل: تابعه عبدالواحد والبعض لم يقبل هذه المتابعة.
 فيقدم ما في الصحيحين عليه، وقد قال مغلطاي في شرحه للحديث وفيه نظر أي سنده ولم أر أحداً ذكره في طرق حديث أبي سعيد...إلخ وقد ضعفه بعض أهل العلم من المعاصرين. والحديث في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد بدون زيادة الفلاة.

 

ثالثاً: أن هذه الأحاديث إن صحت فتحمل على ما إذا لم يكن هناك مسجد جماعة أو مسجد بعيد يشق الوصول إليه، لأن الأصل أن تصلى الصلاة في المساجد، ويحمل الحديث على الأمر العارض فيما لو أدركته الصلاة في مكان ليس فيه مسجد، وقرره الشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهم الله.
 ولو قيل بما ذهب إليه صاحب المقطع لخرج الناس من منازلهم خارج البلد ليدركوا الفضل، ولم يقل أحد من السلف بذلك.
ولو قيل بما ذهب إليه صاحب المقطع لعطلنا أحاديث فضل الصلاة في المساجد ولعطلنا المساجد من الصلاة فيها التي أمر الله بعمارتها.
والقاعدة المحكم والمتفق على صحته مقدم على غيره مما تطرق إليه الضعف أو الاحتمال.

 

رابعاً: حمل الحديث على المعذور عن حضور الجماعة فيحصل له ثواب الجماعة لقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً) رواه البخاري، والمسافر لا تجب عليه صلاة الجماعة، على أن وجوب الجماعة على المسافر محل خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، وعند الحنابلة الوجوب، وقد ذكرت الخلاف وأدلته في كتاب: (المختصر في أحكام السفر) في طبعته الخامسة.

 

خامساً: قالوا والحكمة من اختصاص صلاة الفذ بهذه الأفضلية أنه في الفلاة يكون مسافراً، والسفر مظنة المشقة فهو حث على الصلاة وترغيباً لها لينال بهذا أجر من صلى في الجماعة، ولأن ذلك ربما يحضره من الإخلاص ما لا يحضر من صلى أمام الناس كما ذكره الشوكاني وغيره.
 وورد في مصنف عبدالرزاق وابن أبي شيبة مرفوعاً وموقوفاً عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «إذا كان الرجل بأرض قي فحانت الصلاة فليتوضأ، فإن لم يجد ماء فليتيمم، فإن أقام صلى معه ملكاه، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه» قال البيهقي: الصحيح موقوف، وقد روي مرفوعا ولا يصح رفعه وصححه الألباني وقال له حكم المرفوع. وفي رواية له: «صلت معه أربعة آلاف ملك، وأربعة آلاف ألف من الملائكة»، وقال ابن المسيب: صلى وراءه أمثال الجبال من الملائكة. رواه عبدالرزاق. وعن مكحول قال: «إذا أقام الرجل لنفسه صلى معه ملكاه، وإذا أذن، وأقام صلى معه من الملائكة ما شهد الأرض» رواه عبدالرزاق.

 

سادساً: أن المساجد قليلة في زمن النبوة وفي الزمن الأول في البلدان فكيف في الطرق، فالغالب أن المساجد لم تكن موجودة في طرق الناس في أسفارهم.

 

سابعاً: أن مساجد الطرق هي في الحقيقة في الغالب في الفلاة فيكون من صلى فيها قد نال أجر الحديث إن صلى منفرداً، وإن صلى في جماعة فقد نال الأجرين
 والفضيلتين، وفضل الله واسع كما يقول المناوي في فيضه والشوكاني في نيله.

 

ثامناً: بعض الأحاديث الوارد في فضل الصلاة في البر والفلاة.
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «إذا كان الرجل بفلاة من الأرض فأذن، وأقام وصلى صلى معه أربعة آلاف من الملائكة أو أربعة آلاف ألف من الملائكة» رواه عبدالرزاق.
2- عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «إذا كان الرجل بأرض قي فحانت الصلاة فليتوضأ، فإن لم يجد ماء فليتيمم، فإن أقام صلى معه ملكاه، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه» رواه البيهقي في السنن وعبدالرزاق وابن أبي شيبة قال البيهقي: الصحيح موقوف، وقد روي مرفوعا ولا يصح رفعه، وصححه الألباني في الثمر المستطاب وقال: له حكم المرفوع.
3-قال ابن المسيب: صلى وراءه أمثال الجبال من الملائكة. رواه عبدالرزاق.
4-عن مكحول قال: «إذا أقام الرجل لنفسه صلى معه ملكاه، وإذا أذن، وأقام صلى معه من الملائكة ما شهد الأرض» رواه عبدالرزاق.

 

أخيراً: أيها الإخوة الفضلاء: إن على طالب العلم عدم الاستعجال وأخذ الفكرة والقول من أول سماع ونظرة، دون الرجوع إلى كلام أهل العلم الكبار، والنظر بشمولية لفقه النصوص الشرعية بمجموعها والنظر للمصالح والمقاصد، والنظر إلى فقه الأقوال، لأن البعض ربما يعجبه القول وغرابته من أول نظرة وخاصة في بداية طريق العلم وربما له سلف من أفراد أهل العلم فيه، ولو رده إلى الأصول لسلك طريق جادة أهل العلم في الاستدلال، وجمع الأقوال والنصوص والجمع بينها، ورد متشابهها إلى محكمها، وخرج بتقرير يتوافق مع نصوص الشريعة ونظرتها الشمولية ومقاصدها العظيمة، وحفظ ضروراتها الخمس، وكل طريق لحفظها، ولكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة.

 

إن التوسط في باب البحث والنظر وإعمال جميع مدارك الأحكام التي نصبها الشارع معرّفات على أحكامه من الوحي والعقل والحس على وجه لا يؤدي إلى التضارب بينها بل يوفق بينها بما يوصله إلى الصواب، ولا يؤدي إلى تعطيل حكم قطعي أو مناقضة لقصد الشارع من تشريع الحكم، وإن الجري وراء ظواهر النصوص من دون تعقلها والنظر في مآلها قد يؤدي في بعض الوقائع إلى ما يناقض مقصد الشارع كما يقول البنعلي.

 

وإن على العامة من الناس أو المثقفين أن يسأل الواحد منهم -إذا قرأ وسمع غرابة من فتوى أو قول- من يثق في علمه من العلماء وألا يستعجل في نشر كل ما يرد عليه، وألا يكون مصدر علمه وتصحيح ما يرد إليه شبكة الانترنت من مصادر غير موثقة وغير معروفة، وعليه ألا يجعل عقله مصدراً في التصحيح والتضعيف للأقوال والآراء، لأن الدين له حرمة وحمى، ومصادره وطرق الاستدلال والترجيح والجمع بين الأحاديث والأقوال علم له أصوله وقواعده، وليس حمى مستباحاً للجاهلين والمتعالمين.