الربانيون لا يطلبون الجزاء
12 ربيع الأول 1437
د. خالد رُوشه

أتحدث عن تلك القلوب المؤمنة التقية , التي جعلت نفسها لله وقفا , فعملت لله , وسعت لله , وعرفت لله , وخاصمت في الله , وصالحت لله , ووالت في الله , وعادت في الله , وأحبت في الله , وأبغضت في الله , فصار عملها كله لله وفي الله , فهم لا يعاتبون ولا يطالبون ..

 

 

لا يعاتبون مهما غفل الناس عنهم , وقصروا في حقوقهم , فهم لا يتعلقون إلا بربهم , ولايرتجون إلا منه , ولا يأملون إلا فيه .

 

 

كما أنهم لايطالبون بجزاء من الناس مهما قدموا , ومهما أحسنوا , ومهما بذلوا , ومهما أعطوا , ومهما تحملوا , إذ إنهم لاينتظرون الجزاء إلا من الله سبحانه , ويحسنون الظن فيه سبحانه , وينتظرون خير الفضل .

 

 

والحق أن المؤمن كلما كان قلبه متعلقا برضا ربه سبحانه , استوى عنده مدح الناس وذمهم , وعطاؤهم ومنعهم , وشهرته بينهم وخفاؤه عنهم .

 

 

فحسن لكل رباني أن يعرض عن معاتبة الخلق إذا رأى منهم عدم الاهتمام به , وحسن له أن يرضى بربه سبحانه وحده جزاء وحسبه منه وحده عطاء .

 

 

وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم كثيرا , فالأنبياء يبذلون ويعطون من جهدهم وأوقاتهم وأنفسهم وأموالهم , لكنهم لم يسألوا الناس جزاء لذلك , بل كان قولهم " وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ "

 

 

واورد القرآن الكريم مقولة الرباني الصالح مؤمن سورة ياسين : " وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِين , اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ "

 

 

بل قد ذكر القرآن الكريم في صفة الابرار أهل الجنة قولهم : " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا "

 

 

ولا يقولن أحد أن هذه التوجيهات إنما يستفاد بها في العبادات فقط , بل شتى أخلاق المؤمن ومعاملاته التي يبتغي بها وجه الله ينبغي عليه أن يجعلها لله سبحانه , وأن يتعفف فيها عن النظر الى الناس  .

 

 

بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك صريحا في وصل الأرحام إذا هي انقطعت , وأنكر على الذين ينتظرون الوصل ليصلوا , أو الذين إنما هم يصلون كرد فعل وجزاء , فقال صلى الله عليه وسلم " ليس الواصل بالمكافىء " أخرجه مسلم .

 

أستطيع إذن في نهاية كلامي أن أصيغ معادلة  مفادها  :  كلما قوي مقام الله سبحانه في قلبك كلما  كان عملك مخلصا له , غير ملتفت لخلقه , فصغر في عينك الخوف والرجاء من الناس  .

 

 

والمؤمن الصالح إذا اقنع نفسه بذلك المعنى وربى قلبه عليه , صغر في عينه الجزاء من الناس , بل وصغر في عينه مقام الدنيا بأسرها , فهو يبذل جهده وماله , ونفسه , فيعلم الخير , ويحل المشكلات , ويصلح المجتمع , وينصح للخلق , ويضىء للناس سبيلهم , كل ذلك لا ينتظر منهم أي مقابل , ولا حتى كلمة شكر , كيف لا وإنما علاقته بربه , ونظره إليه.

 

 

وليطمئن أهل الإيمان ,  فإن الذين يعملون بنية صادقة لا يضيع أجرهم أبدا ـ بغض النظر عن نتائج عملهم ـ فقد قال الله تعالى: " إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا "