جولة التفجير الانتخابية بتركيا
1 محرم 1437
أمير سعيد

إذا كنت تتفق مع ما قالته وزيرة شؤون الاتحاد الأوروبي في الحكومة التركية المؤقتة باريل دادا أوغلو بشأن الهجومين الإرهابيين بالعاصمة التركية أنقرة، اللذين أسفرا عن مقتل نحو مائة تركي وإصابة أكثر من ضعفيهم، من "أن الغاية من التفجيرين إلى حد كبير، هي خلق ضغوطات على تركيا، بواسطة منظمة بي كا كا الإرهابية، لمحاولة إبعاد تركيا عن الملف السوري".

 

 

 

أو نظرت إليه من زاوية أشمل كرؤية الكاتب والمفكر التركي إبراهيم قاراغول رئيس تحرير يني شفق التركية الذي لخص أهداف التفجيرين بقوله: "ما حصل في الأمس هو ليس اعتداء إرهابي.. في الأمس ضربوا أنقرة.. وقدموا رسالتهم بضرب العاصمة.. هز الشعب قبل الانتخابات وتحريضهم للنزول إلى الميادين.. فهم قد بدؤوا بالمداخلة الداخلية. لكن هذه ليس هو الهدف الأساسي فالهدف الأساسي هو بتحويل تركيا إلى سوريا فإنه هذا السيناريو ما هو إلا لإعداد البنية التحتية للهدف الأساسي".

 

 

 

أو توقعت مع محمود حاكم محمد، الباحث المتخصص بالشأن التركي والعثماني، أن "هذه المجزرة لن تكون الأخيرة، فهنالك سلسة من المؤامرات التي سيتم العمل من خلالها على إبقاء حزب الشعوب الديموقراطي فوق السد الانتخابي".
أو حتى كنت سمّاعاً للمتأهبين للقفز على السلطة للحلول محل إدارة أردوغان كجماعة كولن، وقرأت في صحيفتهم زمان ما يقنعك تماماً أن الخرق الأمني الذي أدى إلى حدوث التفجيرين كان متعمداً..

 

 

فسأخبرك خبراً سيئاً، وهو أن كل ما قد قرأته صحيح بدرجة كبيرة! فالعملية المزدوجة التي تعد الأكبر منذ نشأة "الجمهورية التركية"، والتي استهدفت تجمعاً للمتظاهرين الأكراد واليساريين المعارضين للحكومة التركية، قد رما إلى تحقيق أكثر من هدف داخلي وخارجي، وبقدر حجم تركيا وتأثيرها الإقليمي والعالمي الصاعد، تتناسل الأهداف من رحم العملية الإجرامية تلك.

 

 

 

 

ما بين كسر مشروع أردوغان عبر صندوق الانتخابات، وكسره بالفوضى، لا تبعد أطراف اللعبة بعضها عن بعض، فهذا إن لم يتحقق فذاك يمكن تجربته..
وما بين الإفشال الداخلي، وقطع اليد التركية في سوريا، وفي المنطقة بالتبعية، لا مسافة كبيرة بين أبعاد خطة التفجير المزدوج.. فكلاهما يغذي الآخر
وما بين براعة الجهاز المدبر للجريمة، وإخفاق الأجهزة الأمنية المركب في إجهاضها، لا خط عريضاً.. فلقد جرت العادة أن يعبر كليهما عن إرادة واحدة في دول لا يُراد لها أن تنهض، وتستعيد حلمها المختطف.

 

 

 

 

إن هذا كله ليس فقط وارداً، بل مرتبط بزمام واحد، عنوانه "الفوضى الخلاقة"؛ فعلي الصعيد الداخلي، ومثلما هو الحال قبل يومين فقط من انتخابات 7 يونيو الماضي، وفيما كانت استطلاعات الرأي تشير إلى توقع حصول حزب الشعوب الديمقراطي (يساري كردي متطرف) على نسبة ما بين 9-10% من أصوات الناخبين، حين حصل تفجير ديار بكر (بين أكراد موالين للحزب ووسط تجمعٍ لهم)، وارتفعت النسبة إلى 13% من الأصوات في صناديق الانتخابات؛ فإن استطلاعات ما قبل تفجير أنقرة تثير قلقاً بالغاً للحزب وللقوى العلمانية في تركيا وخارجها، والدول الأوروبية، والولايات المتحدة الأمريكية، وحلف روسيا الجديد، حيث تشي بتراجعه لعدة نقاط قد تخرجه عن حد الحاجز الانتخابي (10%) المؤهل لدخول أي حزب للبرلمان، مثلما كان بيونيو الماضي؛ فإن تفجير الأمس يعد رافعة جيدة للحزب (الذي لم يحضر قادته للتجمع الذي كانوا مدعوين له إلا بعد التفجير!) إن أخفق حزب العدالة والتنمية الحاكم في استثمارها لصالحه، وكشف أبعاد المؤامرة.

 

 

 

 

ومثلما كان هو الحال في بلدان أخرى في الإقليم شهدت انقلابات عسكرية قبل عدة أشهر من إجراء انتخاباتها البرلمانية، التي كانت شبه محسومة لصالح أعداء الدولة العميقة؛ فإن تفجيري أنقرة يحرثان في الحقل نفسه، حقل الترهيب من ضياع الاستقرار وغياب الأمن، وعدم قدرة الأجهزة الأمنية (المعطل أجنحة منها بإرادتها لتسميم الوضع الأمني) على ضبط الأمور، وهذا إما أنه يزرع الخوف من التصويت للحزب الحاكم (الرخو) الذي لا يمكنه السيطرة على الموقف، ويجعل الشعب بحاجة لـ"رجال أشداء" يحكمونه، فيطلبونهم في زي عسكري إن أخفق ممثلوهم "المدنيون" في أحزاب أتاتورك المختلفة في كسب الجولة بسلاح الترهيب والتفجير الانتخابي.. أي تواطؤ جزئي لبعض الأجهزة وتراخيها من أجل دفع الناس للحاجة إليها إما للتصويت لمن يمثلها أو لاستدعائها مباشرة (انقلاب/مؤجل).

 

 

أما على الصعيد الخارجي، فالصورة واضحة: لابد لتركيا أن تنفض يديها عن سوريا؛ فالنظام العالمي قد اتفق على أن هذا البلد لابد أن يظل محكوماً بأقلية نصيرية، ولو فرغت البلاد كلها من مواطنيها.

 

 

 

ودخول روسيا الذي جاء بتفاهم دولي واضح قد أنيخت له الراحلة ليمتطيها، ويشن أعنف هجماته لا من أجل "سوريا المفيدة"! وحدها، مثلما أطلق بشار الأسد على أجزائها القريبة من فلسطين وساحل البحر المتوسط (حيث الأمان الصهيوني والأوروبي من الإسلام ورجاله)، وإنما لكل أرجائها، بما فيها حلب التي تشن عليها حرب ضروس.

 

 

 

الصورة ليست واضحة هنا فقط، فحلب ليست من "سوريا المفيدة"، لا هي ولا السليمانية الكردستانية التي ثورت ضد مسعود البرزاني الأقل من بين ساسة كردستان العراق عداء لحكومة أحمد داود أوغلو التركية، ولا سائر كردستان كلها التي تحضر لها غرفة الاستخبارات الروسية/الإيرانية/العراقية الجديدة مفاجأة قريبة!

 

 

 

تسخين الجبهة الكردية مجدداً، في الداخل، وتفجير الحدود التركية على طول حدود سوريا والعراق كليهما مع تركيا ليس وليد الصدفة، كما أن رمي قيصر الروس بثقله العسكري، والتاريخي كأكبر عدو عرفته الدولة العثمانية في هذا التوقيت ليس محض مصادفة، وحين تأتي التفجيرات مزامنة، مستهدفة الأكراد، وضاربة في عمق الدولة التركية، في وسط عاصمتها أنقرة؛ فإنه يأني للخيوط السابقة أن تتزاحم، والأهداف الآنفة أن تترابط.

 

 

 

أنقرة، العاصمة المذبذبة الأصوات، والتي تتقارب فيها حظوظ الإسلاميين والعلمانيين في حصد المقاعد، يأتي التفجيران محاولين أن يجيراها باتجاه حزب الشعب الجمهوري. في تلك المدينة الثرية يغدو رأس المال مهدداً بالاضطرابات، يزداد قلق أساطين المال؛ فيتحركون في اللحظة الأخيرة.. أما الجماهير؛ فقد يصبح حشدها أيسر من جولة حديقة غازي قبل عامين، حين ترك المحتجون اسطنبول بحديقتها وعمدوا إلى التظاهر بالعاصمة، حيث قدرتهم على الحشد أعلى من اسطنبول، وحساسية العاصمة توفر لهم حظاً أوفر من خصومهم حال تصعيد الموقف. ففي تفجيري العاصمة إذن مزيتان انتخابيان، إحداهما لتعزيز فرص سيطرة حزب الشعب الجمهوري عليها، والأخرى تتعلق بقومية الضحايا، ما يخلق مظلمة كردية خارج حدود مناطقهم، وثالثة ترتبط بحساسية مؤسسات العاصمة السيادية، ورابعة إعلامية حيث الأضواء مسلطة عليها، والخامسة اقتصادية، إذ يجري التفجير قفزة في طريق ترهيب رؤوس الأموال التركية والعالمية، والسادسة أمنية، وهي تأكيد لكل تركي أن حياته في خطر في ظل خيار يجعل أردوغان على رأس السلطة!

 

 

 

وعلى كثرة الأهداف؛ فإن التباين ما بين تصريح الوزيرة التركية عن بي كا كا وتلميح أحمد داود أوغلو عن داعش كمسؤولين محتملين عن العملية الإرهابية لا يثير كثيراً فضولاً بالبحث عن المسؤول، فعند الرغبة بالبحث عن المستفيدين لا ينبغي التوقف طويلاً أمام الأدوات؛ فالمعركة بين تركيا وأعدائها مصيرية، وهذا وقتها الأصعب، وميدانها الأخطر..

 

 

 

لقد تحمل الغرب والشرق أردوغان وإدارته طويلاً، وصبره قارب على النفاد، خصوصاً إذا شعر أن مشروعه في سوريا يمكن أن ينتصر، أو مشروعه الإصلاحي الأخطر يوشك أن يتم.. لا، ليس النهضة الاقتصادية.. بل هي معركة الهوية.. العودة للعثمانية.

 

 

لا يمزح الغرب والشرق حين يجد الطريق سالكة نحو تعرف الشعوب على هويتها والعودة إلى أصالتها.. أعداء تركيا لا تعنيهم الليرة كثيرة، ارتفعت، أم انخفضت، إنما سيقتلهم إلقاء دستور أتاتورك الذي استماتت بريطانيا وفرنسا من أجل كتابته واستنساخه، في القمامة.

 

 

 

إن رأوه ملقى، فلا غرابة أن نجد أحدهم يرتدي كاباً يخرج متجهماً ينظر بعينين حادتين مكفهر الوجه أسوده، يتلو بيانه الأول بصوت عالٍ:
"تعطيل العمل بالدستور"..