19 محرم 1437

السؤال

السلام عليكم.. أنا عمري 34 سنة وأحب فتاة عمرها 14 سنة حُبَّ الأم لابنتها، وسؤالي لكم هل مشاعر الأمومة قاصرة على الأم الحقيقة؟ وهل لا يجوز للمرأة العزباء أن تشعر بالأمومة تجاه أحد خاصة إذا كانت بعمر الثلاثين فما فوق؟؟، فقد سبق لي أن أرسلت رسالتي بهذا الشأن لموقع خاص بالاستشارات، وأخبرتهم بقصتي وأنني تعلقت بفتاة واعتبرتها بمثابة ابنتي، فردت علي إحدى المستشارات ردا قاسيا جدا وجارحا، وأنني لا يمكن أن أعرف ما معنى الأمومة الحقيقة لأنه لم يسبق لي الزواج والإنجاب، فهل حقا الأم الحقيقة هي من تحمل فقط؟، فأنا لو كنت تزوجت ستكون هذه الفتاة بعمر بناتي، فلماذا هذه القسوة وهذا التجريح؟؟..
وحتى وإن كانت بعيدة عني فأنا أشعر بها قريبة مني، وتعلقت بها كثيرا لأنني ذقت لوعة اليتم مثلها لما كنت في سنها، وأشعر بقمة السعادة لما أسمع صوتها وتقول لي كلمة ماما، أو حين تصلني منها رسالة وأقرأ كلماتها، وتقول لي: أنت أحن الناس علي بعد وفاة أمي رحمها الله، فما ذنبي إن لم يكتب الله لي الزواج والإنجاب؟
أليس من حقي أن أشعر بالأمومة من فتاة ليست هي ابنتي إنما هي قريبة من قلبي كأنها ابنتي، وأخاف عليها من نسمة الهواء، وأرشدها وأنصحها، وحتى وإن تزوجت فلن أشعر بالفراغ بعد زواجها كما ذكرت لي تلك المستشارة.
وما مصير تلك الفتاة لو أنا تخليت عنها الآن بعد أن تعلقت بي؟؟، فلو فعلت سأصدمها وأجرحها، وقد سبق أن قلت لها علينا أن ننفصل عن بعضنا، فبكت كثيرا وقالت لي: ماما أرجوك لا تتركيني فأنا بحاجة إليك، أنا بدونك لا شيء، فكيف أتركها؟

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم
الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
أختي السائلة الكريمة، بداية أشكر لك ثقتك بنا، واختيارك لموقع المسلم لبث همومك والبوح بمشكلتك، وأسأل الله العلي القدير أن يوفقني لمساعدتك وتفريج كربتك..
أما بخصوص مشكلتك، فهي مشكلة أكثر النساء والفتيات اللاتي لم يكتب الله لهن الزواج والإنجاب، وتأثير واقعهم ومحيطهم الأسري والاجتماعي على استقرارهم السلوكي والنفسي، نتيجة قسوة المجتمع والنظرة السلبية للمرأة التي تأخرت بالزواج وما يصدر عمن حولهم من أحكام جارحة..
وأنا أشعر بما تشعرين به، وأعلم بحجم معاناتك وقدر احتياجك النفسي لتلك العاطفة التي أنعم الله بها على المرأة وهي عاطفة الأمومة، ولقد وهبك الله تعالى قلبا جميلا يحمل كل هذه العواطف الجياشة التي تفيض بالحب والعطاء والرحمة والرفق، ولهذا تعلَّقتِ بهذه الفتاة اليتيمة وأحببْتِها كأنها ابنتك الحقيقية، فقدَّمتِ لها يد المساعدة والعون وشَملْتِها بعاطفة الأم المُحِبَّة لابنتها، وأغْدَقْتِ عليها من حنانك وأحَطْتِها برعايتك، ولم تبخلي عليها بالإرشاد والنصيحة..
فاحمدي الله تعالى لأنك تمتلكين هذا القلب الرحيم وهذه المشاعر والعواطف الإنسانية التي جعلتكِ تشعرين باحتياجِ هذه الفتاة لوجودِك في حياتِها، ولمساندَتِك ورعايَتِك لها، وتخصيص أنفسِ أوقاتِك لسماعِ حديثِها ومراسَلَتِها والاهتمام بشؤونها..
واحمدي الله تعالى لأنك لستِ مثل من نُزِعَت من قلوبهم تلك الرحمة فجَفَّت ينابيع عواطفهم وتحَجَّرت ونضبَ منها مَعينُ الحبِّ والعطاء..
واحمدي الله تعالى لأنه اسْتعملك في الخير وأرشدك إلى النهوض بهذا الواجِب والعمل الصالح ووجَّهك لهذا الطريق، ولم يجعل همَّك في الحياة هو التفكير في نفسك ورغباتك وفيما لا يعود عليك بالنفع والفائدة..
ومن النصائح والإرشادات التي أقدمها لك ما يلي:
أولا: عليك أن تشعري من داخلك بالطمأنينة والراحة النفسية، والرِّضا بأقدار الله خيرها وشرها، وضَعي يقينك وثقتك في الله واجْعَلي غِناكِ به وافتقارِك إليه..
وتذكَّري قول الحق سبحانه: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾، فلو عقَلْتِ أسرار هذه الآية وعمق معانيها ستدركين أنَّك مع من بيده ملكوت السماوات والأرض وهو سبحانه وتعالى سيكفيكِ ما همَّك من أمر الدنيا، وكلَّ ضيقٍ وشدَّة، وكلَّ امتحانٍ وابتلاء، ولن يعجزه أن يسخِّر لك زوجًا صالحًا مهما تأخَّر بك سِنُّ الزواج، ولن يعجزه أن يرزقك بالأولاد والبنات، فالزواج موكولٌ إليه وحده، وهو رِزْقٌ يسوقُه لعباده في الزَّمن والميقاتِ الذي يحدِّده بمشيئتِه وإرادَتِه، قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، ويقال تعالى:﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾..
ثانيا: تحرَّري من كلِّ مشاعر الإحباط التي قد تسبِّب لك الإحساس بالضعف والانكسار والضِّيق، والشعور بالقهر والظلم والنقص، لأنها إذا لازمت الإنسان أثرت على استقراره النفسي والعاطفي وألحقت به الضرر والإصابة بأعراض الاكتئاب النفسي..
ولهذا عليك ـ أختي الكريمة ـ أن تمسحي من ذاكرتك تلك الجملة التي ذكرتها في رسالتك فقلت: " أتمنى أن لا تقسوا علي يكفيني قسوة الحياة "..
لأنك امرأة مسلمة، والإسلام يعني الانقياد الكامل لله في كلِّ ما يحدث للإنسان في هذه الحياة، والإذعان لأقدار الله تعالى سواء في اليسر أو العسر، في الفرج أو الكرب، في المِنحة أو المحنة، في السِّعَة أو الضِّيق..
وهذا الإيمان القوي سيجعلك راضيةً مستبشرة، تشعرين بأنَّك على خير في كل أحوالك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له".
وسيجعلك صابرةً الصَّبرَ الجميل، وهو الصبر مع الرِّضا بلا شكوى إلا لمن بيده مقاليد السماء والأرض، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وقال يعقوب عليه الصلاة والسلام‏:‏ ﴿‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ‏﴾‏‏‏، وقال: ‏‏﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾.
ثالثا: إن الإسلام لم يحرِّم مشاعر الحب التي نحملها لمن حولنا ممن تجمعنا بهم روابط الأخوة في الله، أو روابط الشعور الإنساني النبيل الذي يُفْضي إلى الخير والنفع والصلاح، والتعاون على البر والتقوى، ما دامت هذه المشاعر لا تنحرف عن طريق الهداية والاستقامة، ولا تزيغ عن جادَّة الطريق ولا تخالف منهج الاحتكام إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تتعلق بذاك الارتباط العاطفي الذي يجمع بين الرجل والمرأة لأن شرطه أن يكون بميثاق الزواج..
وأنتِ تحملين لهذه الفتاة مشاعر الحبِّ التي تحملها الأم لابنتها، وهي كذلك تحبُّكِ وتعتبرك أحنَّ إنسانة عليها، وأن لا قيمة لحياتها بدون وجودك إلى جانبها، لأنَّكِ استطعتِ ان تقدِّمي لها الإيواء والسَّكن النَّفسي، والاحتواء الروحي الذي كانت تحتاج إليه، ومَنَحْتِها المشاعر الصادقة التي تفتقدها في غياب أمِّها الحقيقية رحمها الله، ولأنَّ هناك رابطٌ متين يجمع بينكما هو رابط الشعور باليتم، الذي لا يتقاسمه إلا من تذوَّقَ مُرَّه..
ويكفيكِ شرفا أن الإسلام قد حثَّ على الاعتناء باليتيم عنايةً خاصَّة، وأَوْلاَهُ اهتِماما بالغا في آيات كثيرة، مما يكفل حقَّه في العيش الطيب الكريم، وحمايته مما يتعرض له من انتهاكات مادية ومعنوية، ويدفع عنه الضَّرر والأذى الذي يؤثِّر سلبا على استقراره واتِّزانه من الجانب العاطفي والنفسي، كما حذَّر الإسلام من التقصير بحقوق اليتيم كما في قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم، وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، وقوله - تعالى:﴿ كَلاَّ بَلْ لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾.
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على كفالة اليتيم والاعتناء به والرِّفق من حاله في عدة أحاديث، منها: منها حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - أنَّ رجلاً شكَا إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قسوةَ قلبه، فقال: "امسَح رأس اليتيم، وأطعِم المسكين"، وقال بشر بن غزية: "استُشهِد أبي مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بعض غزواته، فمرَّ بي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا أبكي، فقال لي: "اسكت، أمَا ترضى أن أكون أنا أبوك، وعائشة أمَّك؟"، قلت: بلى، بأبي أنت وأمي يا رسول الله"..
رابعا: ما دام ارتباطك بهذه الفتاة ليس بدافع الإنفاق عليها ولا مساعدتها ماديا لأنها لا تعيش ببيتك، فأنت لم تذكري شيئا عن ظروف عيشها ولا من يقوم بكفالتها والاعتناء بشؤونها، إنما ذكرتِ ما هو أهم من ذلك وهو ذاك الارتباط الوثيق الذي يجمع بينكما، وهذا الشعور يحقق لكما معًا الاستقرار النفسي والعاطفي، فأنتِ بحاجة إلى الشعور بالأمومة الذي وجدتِه في هذه الفتاة التي أهدتْك الإحساس بالحب والفرح والسعادة، وجعلت لحياتك معنى جميلا، وهدفا نبيلا، والنهوض برسالة الأم المربية..
وهذه الفتاة بحاجة كذلك إلى الشعور بوجودك لأنك جعلتِها تشعر بأنك لا تختلفين عن أمها التي توفيت رحمها الله، ولو لم تمنحيها الشعور بالأمومة الحقيقية لفرَّت منك، ولاختارت هي من تلِقْاءِ نفسها الانفصال عنك، فأنتِ لم تجبريها على أن تحِبَّك، بل جعلتها تشعر بأنك فعلا تستحقِّين أن تكوني بمثابة أمٍّ لها، ولهذا لم تتعلَّق إلا بك ولم تختر سواكِ كي تناديها بأمي..
ولهذا صار انفصالك عنها حاليا له عواقب وخيمة على مستقبل هذه الفتاة، لأنها ستعيش ألم فراق الأم من جديد، وهي بعمر الزهور وتحتاج إلى مساعدتك ومساندتك، ومشورتك، واحتوائها عاطفيا ونفسيا، وأنت تقدمين لها كل ذلك خلال هذه المرحلة..
خامسا: احْرصي على أن تبْذُلي قصارى جهدك لحماية هذه الفتاة حتى تصل إلى بر الأمان، وتابعي أخبارها عن كثَب، وكوني لها اليد الحانية، والقلب الرحيم الذي يعطِف عليها، والأذن الصَّاغية والواعِية التي تنصت إلى شكواها بصبر وأناة، وصدر الأم الرَّؤوم الذي يشملها بالحنان والحب، ويحتوي أفراحها وأحزانها، ويتفهَّم ما تمرُّ به خلال هذه المرحلة من تقلبات في المزاج والانفعالات، حتى لا تبحث عمن يحتويها بصورة مشوهة أو منحرفة..
سادسا: إن الأمومة قد تكون أكبر من معنى الأم التي تحمل وتنجب، فهي العطاء والحب، والدِّفء والحنان، وهي البيت والأسرة، والمدرسة والجامعة، وهي الأخت والصديقة، وهي كل معنى يحتوي الصدق في التوجيه والإرشاد والبناء النفسي والتربوي للأبناء..
فكوني لها الأخت، والصديقة، والأم الحقيقية، التي تتابع ابنتها بالتربية والتوجيه والتهذيب، والنصيحة والموعظة الحسنة..
وكوني لها القدوة الصاَّلحة الذي تفتخر بأن تكون صورةً منها في التديُّن والالتزام الحقيقي، وفي السُّلوك والمعاملة الحسنة، وفي الصدق والإخلاص، ومكارم الأخلاق، وحسن الخِلال..
واغْرِسي بداخلها حُبَّ الدِّين، ومراقبة الله تعالى في السِّر والعلن، وفي القول والعمل، وازْرَعي بداخلها الأخلاق الفاضلة والقِيَم النبيلة، والارتباط بالعادات والأعراف التي تمثِّل هوِيَّتها وانْتِسابَها للأصول والثوابت وتمسُّكَها بالدين والعروة الوثقى..
فإن نجحتِ في ذلك فأنت بهذا تساهمين في بناء المجتمع الصالح الطيِّب الأعراق والفروع، فإعداد الفتاة الصالحة هو إعداد للزوجة وللأم الصالحة التي ستكون عمود البيت وأساس الأسرة ومربية الأجيال وصانعة الرجال والنساء من تفتخر بصلاحهم الأمم..
وقبل أن أتركك دعيني أحذرك أيضا من بعض أمور هامة:
- احذري شدة الحب الذي يوصلك إلى التعلق الزائد، فهذا ضار على أية حال، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يصير بغيضك يوماً ما".. فربما يحصل أي نوع من خلاف في المستقبل فتندمي على شدة الحب، لكن اجعليه وسطا ومعتدلا.
- يجب أن تكوني واقعية وحازمة كما أنت شاعرية وحالمة، فيجب مصارحة البنت كل فترة عن طبيعة علاقتكما وأن ظروف الحياة قد تؤدي إلى البعد في لحظة من اللحظات.
- إياك أن يدفعك الرفق إلى التهاون في الأخطاء.
- إياك أن تدفعك المشاعر إلى ما يغضب الله سبحانه من القول أو الفعل،،
- يجب أن تدركي تماما أن تلك المشاعر الطيبة لا تحل حراما في علاقات اجتماعية ولا تنشئ رحما، ولا تبيح إرثا، ولا تقدم في الواجبات على الرحم، بل من الحكمة أن نضعها في موضعها الواقعي الحقيقي.
وأنا بالعموم أظن أن الرد القاسي الذي تلقيتيه على استشارتك في بعض الأماكن الأخرى كان سببه تلك المحذورات.
وفي الختام.. أسأل الله العلي القدير أن ييسر لك سبل الخير والنفع، وأن يبارك لك في عملك الطيب وأن يستعملك في طاعة الله ومرضاته..