28 شوال 1436

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا محمد، عمري 37، أب لثلاثة أطفال لدي مشاكل نفسية عديدة متشابكة، نشأت عن ظروف وطبيعة التربية القاسية التي ربيت بها والسبب والدي الذي أهانني صغيرا ولازال يقلل من احترامي حتى وأنا أب لأولاد..
وعلى الرغم من بذلي الجهد لنسيان الماضي والتقارب معه عن طريق مجالسته والتقرب إليه لكن للأسف لم يجد ذلك نفعا - لقد كان الوالد يشتمني شتائم بذيئة للغاية وأنا لا زلت دون العاشرة فلم يقدر ضعفي وبراءتي.. بالإضافة إلى حبسي وضربي الضرب المبرح فكم من مرة ضربني حتى سال دمي، كما أنه كان دائم الضرب لأمي أمامي وحتى وقت قريب كان يقول لي إني أكره أمك!!
و منذ مدة وأنا في هدنة معه لكن منذ أجل قريب راح يتدخل في أموري الشخصية ولما ذهبت إليه بدافع صلته والبر به راح يعنفني لأسباب تافهة وخارجة عن إرادتي وأمور شخصية تخصني وحدي وقام بطردي..
لقد سئمت حياتي لكني لا أفكر بالانتحار لإيماني بالله تعالى لكني محبط وحزين لا أقدر على مزاولة حياتي بشكل طبيعي..
سؤالي هو ماذا يمكنني الفعل وأنا أشعر بالكآبة والإحباط واليأس وتأنيب الضمير لأن ذلك يقتلني والمعذرة على الإطالة وبارك الله فيكم وجعل أعمالكم قربى لله تعالى وشكراً.

أجاب عنها:
يحيى البوليني

الجواب

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم،
نشكر لك أخانا الكريم ثقتك بإخوانك في موقع المسلم ونسال الله سبحانه أن يعينك على هذه المشكلة وأن يجمع بين كل أسرتك على طاعته ومحبته ورضاه، وان يصلح الله ما بينكما، فهو القادر سبحانه على إصلاح كل نفس.
الأخ الفاضل:
ليس هناك مشكلة تربوية أصعب على صاحبها من أن ترتبط معاناته والأذى الذي يلحق به بأدائه للعمل الصالح والبر بأبويه - وهو واجب عليك وعلى كل مسلم -، فما ذكرت أخي من المعاملة القاسية التي عاملك ويعاملك بها أبوك معاناة شديدة، لأن الأب والأم هما أقرب ما للإنسان على وجه الأرض وهما مصدر الأمان له صغير وكبيرا، ولذلك حينما يأتي الأذى منهما على وجه الخصوص يتألم الإنسان أيما ألم.
وتزداد المشكلة ألما وحدة حينما لا يستطيع الإنسان أن يدافع عن نفسه، فالأصل أنه يتعرض الإنسان للأذى من أي شخص لابد له أن يدفع الأذى عن نفسه أو يرد الأذى لصاحبه، ولكن في حالة الأب والأم لا يستطيع الإنسان ذلك شرعا وخلقا وأدبا.
والأصعب منها أن تستمر هذه الحالة القاسية المؤذية للإنسان وتمتد من فترة طفولته التي تؤثر على نفسيته تأثيرات سلبية متعددة، وقد تصيبه ببعض الأمراض النفسية أو السلوكية، والتي قد تدفعه لكي ينتهج القسوة أيضا مع أطفاله نتيجة للظلم الذي وقع عليه، الأصعب أن تستمر إلى ما بعد ذلك إلى فترة الشباب، لكن من غير المتصور أن تستمر إلى ما بعد زواج الابن وإنجابه للأطفال وكونه أصبح أبا ومسئولا عن بيت وأسرة، وبالتالي فهناك بالفعل مشكلة عند الأب وربما مشكلة نفسية قد أهمل في علاجها حتى استفحلت، فقد يكون الأب قاسيا على أطفاله – وخاصة بالضرب - ويندر أن يكمل قسوته معهم في فترة الشباب، بينما يكون في الغالب قريبا من المستحيل أن يستكمل الرجل قسوته بالضرب لأبنائه بعد زواجهم وإنجابهم.
ولهذا فاني أقول لك أن ما أنت فيه بلاء كبير من الله سبحانه، بلاء له من الله اجر عظيم على عظم قدر الصبر ومشقته، فالمشقة كبيرة وأجرها عظيم.
فأنت تعلم أخي قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلى كفر الله بها من خطاياه"[1]، فكل أذى تحملته لقاء برك بوالدك وصبرك على أذاه، هو منحة إلهية لك ترفع درجاتك وتكفر سيئاتك، فالحمد لله أولا وآخرا.
وليس من كلمة لك سوى النصح بالصبر على هذا البلاء مع برك بأبيك حتى النهاية، فالأب والأم بابان للجنة فيلزم معهما صبر ومودة وبر حتى يقضي الله أمره، وذلك مع محاولة تجنب ما يغضبه أو تقليل مواضع الاحتكاك به، حتى لا يكون هناك أذى أكثر من ذلك وخاصة أمام زوجتك وأبنائك، فكسر الرجل أمام زوجته أو أبنائه عظيم، فلتحرص على عدم التعرض له ما أمكنك.
كما أوصيك لخشيتي عليك من أن تنقل هذه الوسيلة لأبنائك فتعاملهم بقسوة مثلها أو اشد، فأوصيك بهم خيرا، فان كان كل منا سيقلد السيئ من أخلاق أبيه مع أبنائه فمتى يتوقف هذا الأذى، فلابد من حلقة تنهي هذه السلسلة من الإيذاء، ولتكن أنت هذه الحلقة، فما عانيت ومنه وما تعاني حاليا يجب أن تجنب أبناءك مثله، وليعنك الله على ذلك.
وان كان يصلح هذا الأمر – وان كنت أشك أو اقترب من اليقين انك جربت هذه المحاولة للحل - بان تُدخل في حل المشكلة أحدا من أقارب الأب ممن يماثلونه عمرا ومكانة أو من أهل العلم فربما ينصحونه ويثنونه عن فعله هذا، فان لم تكن حاولت تلك المحاولة ورأيت شخصية يمكنها أن تقوم بذلك فلا باس بان تطرق مثل هذا الباب.
وإن كان هناك نصح في هذا الأمر فالنصيحة للأب أكثر منها إليك، فهو أحوج لها، وهي لكل أب يتعامل مع أبنائه بهذه الطريقة:
- حذار من الابتزاز الشرعي أو العاطفي
يعتمد كل أب يظلم أبنائه على أمر الشارع سبحانه للأبناء ببر الوالدين وبطاعتهما وبحسن معاملتهما وبالصبر عليهما، وأيضا هناك دافع عاطفي، فالابن دوما يحمل عاطفة لأبيه وأمه من الحب، ولكن ربما يصل الأمر مع الأبوين لابتزاز باسم الشرع أو الدافع العاطفي، فيكثر الأب ويغالي في قسوته وفي سوء معاملته لأبنائه ثم يطالبهم بان يتحملوه ويطالبهم بإحسان معاملته ويستمسك بالآيات والأحاديث ويصفهم بالعقوق، فهذا ليس من الشرع بل هو ابتزاز باسم الشرع والعاطفة.
- الظلم ظلمات يوم القيامة
إن هذا الضرب والإيذاء قد يصلح في الطفولة للتقويم بشروط وضعها الشرع، ولكن هذا الضرب أو القسوة في الشباب أو بعد أن يتزوج الابن لا تعد أبدا في باب التقويم بل تعد في باب الظلم، فلن يستطيع الابن أن يرد عليك بل لا يستطيع أن يدافع عن نفسه وهو قادر على ذلك، فقد كان لك بعض المبرر في طفولة ولدك فأين مبررك الآن، فحذار من الظلم فهو ظلمات يوم القيامة.
- حتى متى
حتى متى هذا الإيذاء، وحتى متى سيظل الأب في قسوته على أبنائه وهو أحوج إلى أن يصلوه، فهم إلى القوة وهو إلى الضعف، وهم إلى الاستغناء عنه وهو إلى الاحتياج إليهم، فحتى متى لا يفقه الأب انه الآن من يحتاج لتوطيد العلاقة معهم؟ حتى متى ستظل حساباته خطأ ولو من باب المنافع المادية، ألا يعقل هؤلاء الآباء أن الابن الذي عذب من أبيه وظلم ربما يدعو على الأب وربما ينتظر لحظة موته للتخلص منه وربما لا يشهد جنازته، وربما وربما، لقد سمعنا وقرأنا الكثير عن أبناء يتمنون أبشع الميتات لآبائهم، فهل المسئول – في الأغلب - عن هذا السلوك والمنحرف إلا أب فرط وقصر وضيع حق أبنائه، فرحم الله والدا أعان ولده على بره.
أخي الفاضل:
أعانك الله وحفظك واستمر على ما أنت عليه حتى يأتي وعد الله وادع الله لأبيك بالهداية وصلاح الحال وحسن الخاتمة، ورزقك الله بر أبنائك بك، وجزاك الله كل خير.
____________________
[1] أخرجه البخاري (5642)، ومسلم (2573).