التربية بين العطاء والمنع
12 شعبان 1436
د. خالد رُوشه

[email protected]

ينشأ الطفل بنفسية مؤهلة للتشكيل والتكوين , يؤثر في تكوينها وتشكيلها مؤثرات عدة , من أهمها البيئة النفسية المحيطة به , والبيئة التربوية التي تحيطه برعايتها , وسلوكيات الوالدين تجاهه وتجاه غيره , والمعلومات العلمية التي يبثها المربون فيه ويقنعونه بها وغير ذلك ..

 

وتحتاج شخصية الطفل عادة لتلبية احتياجاتها بصورة فورية , وإذ تكثر احتياجاتها وطلباتها تبعا لتعرفها على اشياء جديدة واكتشافها لمطالب جديدة , فهي تكاد تتنقل بين مطلب ومطلب , وكلما استجيب لها في شىء , بحثت عن شىء آخر وهكذا ..!


 قد يكون هذا السلوك معتادا من طفل صغير , لكنه يصير مستدعيا للتدخل التربوي العلاجي عندما يعتاده الطفل لمدة طويلة , قد يصير بعدها كأنه صفة له .

 

هذا النموذج من الطلب , تعممه نفسية الطفل على ما يحيطه من اشياء , بل واحتياجات نفسية أيضا , فلو اعتاد الطفل تلبية مطالبه التي يرتجيها كلها دائما بشكل سهل ميسور , لتعرض أثناء حياته لاضطرابات مختلفة عندما يتعسر عليه وجود حاجاته , أو يعاق عنها , أو يمنع منها , أو حتى عندما يحتاج للوصول اليها جهدا أو عملا أو بذلا أو تضحية .

 

كذلك لو تعرض هذا الطفل للمنع دائما مما يريد من حاجياته ومطالبه , لتعرض لاضطرابات مختلفة , تؤثر على شخصيته , فتتعرض شخصيته لأمراض مثل الشح , والبخل , والأنانية , وحب الذات , والنفعية وغيرها .

 

النظرة التربوية العلاجية وضعت رؤية مقننة توازن بين العطاء والمنع , وتؤطر منهجا يراعي تكوين الأبناء وحاجاتهم من جهة , مع ضبط ذلك وتنميطه وتوظيفه إيجابيا من جهة أخرى بحيث يصير هناك تناغم بين العطاء والمنع .

 

ولكي نستطيع فهم المسألة فلنجرد الرؤية , فليس ما يعطى ههنا مطلوبا لذاته , ولا ما يمنع مطلوبا لذاته , بل هما مطلوبان كعنصر في أسلوب تربوي لبناء الشخصية , وتكوين نفسية الطفل , وبناء أخلاقه .

 

فنحن نعطي الابناء , كحق من حقوقهم علينا , وواجب تجاههم , وثواب شرعي إيماني , ورحمة وضعها الله سبحانه في قلوبنا تجاههم , كما نمنعهم في بعض الأحيان تعليما لهم أن لكل شىء قانونا , وأن الأمور لا تجري بمجرد الطلب , وأن العمل والجهد أساس الكسب والتحصيل , وأن العدل قيمة كبرى من قيم الحياة يجب الالتزام بها , وأنه يجب الإمعان والتفكير قبل طلب الأشياء , فليس كل ما ترغبه النفس حسن لها ولا مفيد , فقد تشتهي النفس ما يضرها في الدنيا أو الآخرة و أو فيهما معا .

 

من هنا كانت الحكمة التربوية العلاجية تقتضي أن يكون عطاؤنا لأبنائنا قائما على اعتبار ما سبق من معاني وغيرها أيضا من المعاني الإيمانية التي علمها لنا المنهج التربوي الإسلامي .

 

فالعطاء يجب ألا يقتصر على العطاء المادي , بل إن العطاء المعنوي مقدم عنه , ومطلوب يسبقه , فإيصال معاني المحبة والمودة لأبنائنا مقدم على عطاء المادة , وهو مسبب مهم في بناء شخصية مستقيمة رقيقة حليمة رحيمة , وكم أكد النبي صلى الله عليه سلم على هذا المعنى كثيرا , لدرجة استنكاره على من لم يقبل أطفاله ويرفق بهم قائلا " من لايَرحم لا يُرحم " أخرجه البخاري .

 

كما أن العطاء يجب أن يكون مرتبطا بالقناعة والرضا , فيتعلم الابناء أن يقنعوا بما أوتوا , مهما كان قليلا , وأن يرضوا بما حصلوا وأخذوا , فقيمة القناعة والرضا ههنا سبب مؤثر في بناء شخصية عادلة متوازنة هادئة بعيدة عن الحقد والحسد والغل .

 

على جانب آخر فإن المنع يجب أن يكون مبررا , لئلا يستشعر الطفل بحالة سلبية من سلوك أبيه في منعه له مما يحبه أو يريده أو يطلبه , فيفضل ههنا أن نبرر سلوك المنع بمبررات مفهومة واضحة , كالمنع للضرر , والمنع للعقوبة , والمنع لعدم التدليل والمنع في بعض الأحيان لعدم القدرة أو لضيق الحال .. وغيرها .

 

كذلك يمكننا تبرير المنع عن طريق وضع قواعد قيمية يتربى عليها الأبناء , نضبط سلوكهم على اعتبارها , كاعتبار العدل بين الأخوة , فلكل حق , ولا يُقبل التعدي , وكرفض التبذير والإسراف , فالشراء ينبغي أن يكون بهدف نافع , لا لمجرد الرغبة ..وهكذا

 

وعندما نستطيع أن نبني قيما شخصية لدى الأبناء فيما يخص العطاء والمنع ( فيقنع بما أخذ , ويزهد في الكثير , ويرضى بالقليل , ولا يتطلع لما في أيدي غيره , ويستطيع ضبط نفسه فيما اشتهى , وفيما رغب , ويستطيع منع نفسه عن بعض ما يستطيع الحصول عليه بسبب يراه صحيحا , أو لمبدأ أو قيمة صائبة ) فإننا عندئذ نكون خطونا خطوات صحيحة في هذا السبيل ...

 

وللحديث بقية إن شاء الله