المناهج التعليمية التي أخرجت لنا "داعش"
6 شعبان 1436
أمير سعيد

تكاد تجمع "النخبة" الحقيقية أو الزائفة في كل مجتمع مسلم على أن مواجهة أفكار الغلو لا ينبغي أن تقتصر على الجانب الأمني وحده، وأن البحث في التربة التي أنبتت هذه الأفكار، وسبر أغوار جذورها، هو آكد الواجبات في لجم انتشارها.

 

 

النخبة الإسلامية ترى هذا، وكذلك تراه "النخبة" العلمانية – إن جاز التعبير – ولكن تنفرد الأولى بأنها لا تجعل من مغالاة بعض الجماعات التحدي الوحيد الذي يواجه أمتنا، فثمة تحديات أخرى تسبقه من التآمر الصهيو/غربي، والصفوي، على الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.. الخ، وكذا بعض التحديات الأخرى، وتصف الغلو والغالين، من الأطراف المختلفة في مكانهم الحقيقي بعيداً عن مركز الوسط الإسلامي..

 

 

لذا، تختلف الرؤيتان بين من يجتزئ، ويختصر كل التحديات في جماعات غالت وتطرفت، ويغض الطرف عن كل أصحاب الغلو من التيارات الفكرية العلمانية وغير العلمانية، والتي كان بعضها سبباً مباشراً عن الغلو الذي نحا باتجاه المغالاة في التكفير في غير مواضعه المعتبرة، واستحلال الدماء المعصومة، واستخدام القتل في غير ما أباحه الشرع في حدوده الضيقة.. وبين من يضع كل تطرف وغلو في موضعه، ولا يكيل في تقديره بمكاييل مختلفة.

 

 

وإذا كان الطرفان يقران بأن أحد أوجه مكافحة الغلو يتمثل في البحث عن جذوره الحقيقية؛ فإن التيار العلماني، وفي صدارته الحالية، التيار الليبرالي، يرى بأنه يتوجب أن تتم مراجعة المناهج التعليمية التي أنبتت نبتة الغلو.. دعونا نقترب أكثر ونحدد؛ فالحديث الجاري هو عن تنظيم "داعش"، وأفكاره التي أنتجت عمليات بعضها يخرج عن سياق الشرع وحدوده، ومنها عملية القديح بمنطقة القطيف بشرق السعودية.

 

 

وعندما حصلت هذه الجريمة؛ فإن التيار العلماني، وفي قلبه الليبرالي، سرعان ما لجأ إلى ترديد مقولته المعتادة وترويج فكرته الأساسية عن "مسؤولية المناهج التعليمية السعودية والدعاة البارزين فيها عن فكر تنظيم داعش".. ولكن هل كانت المناهج السعودية وخطابها الديني مسؤول عن مثل هذه الجرائم؟

 

 

لنبدأ من عند التنظيم، حيث يشتهر إعلامياً وسياسياً باسم "داعش"، وهو اختصار حرفي لاسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، قبل أن "يطور" التنظيم اسمه إلى "الدولة الإسلامية" أو "دولة الخلافة".. نحن ابتداءً بصدد الحديث عن تنظيم نشأ في بلدين متجاورين، هما العراق وسوريا (أكبر دول الشام)، وهما دولتان يحكم الأولى نظام شيعي إمامي، والآخر نظام شيعي نصيري، وكلاهما يدعيان أنهما نظامان علمانيان.

 

 

وقبل أن يصبح البلدان محكومين بنظامين طائفيين لم نكن نسمع عن "داعش"، كما أنهما حينما لم يستعلنان بقوة بطائفيتهما، وعلمانيتهما معاً، لم يكونا محلاً للتنظيم الذي نشأ في رحم تلك الأجواء التي تلت "غلو الدولة"، وهو الغلو الذي جعل أهل السنة في أحدهما (العراق) يصرخون مستغيثين ليس من بطش النظام الطائفي وسطوة ميليشياته الدموية الفاشية فحسب، وإنما كذلك يصرخون فرقاً على مستقبل أبنائهم وعقيدتهم جراء فرض "الفقه الإمامي" شيئاً فشيئاً في مدارس العراق، وتردي مناهجها في حمأة الغلو وفرض أفكار دون ما يعتقده أبناء المسلمين السنة هناك.

 

 

التنظيم الذي يبحث العلمانيون عن أسباب خروجه، وأسباب غلوه، يتكون من جنسيات شتى، منها العربي كالعراقي والسوري وغيرهما، لكن الجنسية التي قدرت الإحصاءات الغربية بسيادتها وغلبتها على الأخريات من الدول المصدرة للتنظيم في سوريا تحديداً بكثرتها، والتي فاقت ثلاثة آلاف بحسب تقدير مركز بيو الأمريكي، هي الجنسية التونسية، وليست السعودية بالمناسبة! (مع أن الإحصاء الأمريكي يبدو غير دقيق على أية حال، لكن المفارقة أن الإحصاء يضع فرنسا – رمز "الحداثة" - في مركز متقدم بالقائمة، ويكشف عن أن عدد المنضمين لداعش في بريطانيا أكثر ممن ينضم للجيش البريطاني من المسلمين؛ فهل يخرج هؤلاء العلمانيون بالاستنتاج نفسه الخاص بالمناهج التعليمية لدى فرنسا وبريطانيا وتونس!)

 

 

وهؤلاء الذين انخرطوا في صفوف "داعش" عن "طيب خاطر" بتلك النسبة، هم نتاج نظام علماني متطرف في علمانيته، كاد مؤسسوه أن يمنعوا صيام رمضان لأنه يعطل عن العمل (في زمان بورقيبه، الأب الروحي للرئيس التونسي الحالي قايد السبسي).

 

 

وفقاً لتلك المقاربة؛ فإننا بحاجة لمراجعة جادة بالفعل لتلك المناهج التي أنتجت "داعش"، وهي مناهج التعليم في كل من العراق وسوريا وتونس، والتي نأمل أن يحقق الباحثون بدقة في الأسباب الكامنة وراء انتشار ظواهر الغلو في أكثر النظم طائفية أو علمانية.. تلك النظم التي يطالب حلفاؤها وأشياعها في السعودية أن يغيروا خطاب دعاتها الديني، ومناهج تعليم، جعلت من تلك الدولة هي أقل دول المنطقة تأثراً بفكر "داعش"، وأكثرها حصاراً وتضييقاً عليه، وتعقباً لخلاياه القليلة التي لا تمثل شيئاً قياساً بقوة التنظيم في العراق والشام.. 

 

 

التنظيم نشأ في أكثر دولتين دموية وطائفية في عالمنا العربي، والتربة التي غذته هي الاستبداد في هاتين الدولتين قبل أي حديث عن مناهج، وإذا أردنا مصارحة أكبر؛ فإن الأيديولوجية ليست هي العنصر الأساس في تعاظم تحدي التنظيم في هاتين الدولتين، بل تلك القوى الدولية والإقليمية التي أرادته في هذا المكان، وأفسحت له المجال، ومهدت له الطريق ليتمدد ويقوى، على نحو لم يعد مجهولاً ألبتة.. أما إذا أصر القوم على المناهج والخطاب الديني؛ فدونهم خطاب الملالي الفاشي، ومناهج التعليم الطائفية والعلمانية في هاتين الدولتين، وأخريات مغرقة في علمانيتها.