حق تلاوته
25 رجب 1436
د. عامر الهوشان

لطالما استوقفتني هذه الآية الكريمة كلما مرت بي تلاوتها في كتاب الله : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } البقرة/121 , متسائلا : هل نحن نتلو كتاب الله تعالى كما أمر الله "حق تلاوته" ؟!

 

 
ويزداد هذا السؤال إلحاحا مع تقصيري أولا بهذا الواجب , وازدياد رؤيتي وسماعي لكثير من المسلمين الذين يتلون كتاب الله تعالى , فلا أجد في تلك التلاوة مواصفات "حق التلاوة" التي أمرنا الله بها , خاصة إذا قارناها مع تلك التلاوة التي وردت عن السلف الصالح , أو حتى مع تلاوة العلماء الثقات من العصر الحديث , ممن هم على قيد الحياة , أو أضحوا في عداد الأموات , ممن نحسبهم – ولا نزكي على الله أحدا – أنهم كانوا يتلون كتاب الله حق تلاوته .

 

 
إن حق التلاوة الذي ورد في الآية الكريمة يشمل الكثير من الحقوق , فهناك حق التلاوة الذي يزيد المؤمن إيمانا ويقينا بعقيدته , وهو ما قاله الحسن البصري في تفسير الآية : "يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، يَكِلُونَ ما أشكل عليهم إلى عالمه" . تفسير ابن كثير 1/404

 

 
وهل ما ذكره الحسن البصري من العمل بالمحكم والإيمان بالمتشابه مع وكل ما أشكل منه إلى عالمه .....إلا أبرز سمات ومعالم عقيدة أهل السنة والجماعة , والتي تختلف بشكل كبير عن عقيدة المتكلمين وأصحاب البدع .

 

 
والحقيقة أن هذا الحق من حقوق تلاوة كتاب الله تعالى لا يدانيه حق , خاصة في هذا الزمن الذي تكاثرت فيه التيارات الفكرية والفلسفية التي من الممكن أن تأثر على صحة عقيدة الكثير من المسلمين , وهو ما يستوجب منهم العناية بهذا الجانب , من خلال العودة إلى عقيدة السلف الصالح المستقاة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وتلاوة كلام الله "حق تلاوته" عقديا .

 

 
وإذا انتقلنا إلى معنى آخر من معاني "حق تلاوته" الوارد في الآية , ألا وهو معنى التفاعل والحضور أثناء تلاوة كتاب الله , فلا يخفى ما لهذا المعنى من أهمية , في زمن ازداد فيه تأثير الجانب المادي على الجانب القلبي والروحي , وأضحى الكثير ممن يتلون كتاب الله من المسلمين , يفتقدون إلى هذه السمة , التي بدونها تكون التلاوة صورية شكلية لا روح فيها ولا حياة .

 

 
لقد بيّن لنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه معنى قوله تعالى { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } فقال : إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة ، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار" .  تفسير ابن كثير 1/404

 

 
وهو معنى يتوافق مع حديث حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فكان إذا مر بآية رحمة سأل , وإذا مر بآية عذاب استجار , وإذا مر بآية فيها تنزيه لله سبح . صحيح ابن ماجة للألباني برقم/1111

 

 
إنها التلاوة التي يستشعر فيها المسلم أن المتكلم فيها رب العالمين وإله الناس أجمعين , فيخشع القلب والجوارح عند ذكر الموت ومواقف لقاء الله تعالى والحساب , فيسأل الله الرحمة والعفو والمغفرة , وتقشعر الأبدان والأعضاء عند ذكر الجحيم والنار , فيستجير بالله من عذابها , وتتأثر العين مع آيات الخوف والرجاء فتدمع , فيكون التفاعل في التلاوة كاملا شاملا , بيثن العقل والقلب , والروح والجوارح .  

 

 
أما المعنى الثالث والرابع لحق تلاوة كتاب الله تعالى , فهو حق تلاوته كما أنزل , وحق التطبيق على أرض الواقع بعد تلقي الأوامر والنواهي الإلهية , ويشير إلى هذا المعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير الآية { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } : والذي نفسي بيده ، إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلاله ويحرم حرامه , ويقرأه كما أنزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله . تفسير ابن كثير 1/404

 

 
1-   أما تلاوته كما أنزل فمعناه أن يتلوه دون لحن أو تصحيف أو تحريف , سواء للأحرف أو للحركات والسكنات , ناهيك عن مراعاة أحكام التجويد عند التلاوة , والتي هي واجب عند تلاوة القرآن الكريم , كما يؤكد ذلك ابن الجزري رحمه الله بقوله :

 
        والأخذ بالتجويد حتم لازم            من لم يجود القرآن آثم
        لأنه به الإله أنزلا                    وهكذا منه إلينا وصلا

 

 
والحقيقة أن الكثير من مسلمي العصر الحديث مقصرون في هذا الجانب , رغم أنه أسبابه ميسورة , وتكاليفه لا تتعدى تفريغ بعض الوقت لتصحيح التلاوة على يد حافظ مجاز , أو متقن للتلاوة وإن لم يكن مجازا .

 

 
والمؤسف أن يتجاوز هذا التقصير عامة المسلمين إلى خاصتهم , من الأئمة والخطباء والدعاة ممن يأمون الناس في الشعائر الإسلامية كالصلاة وخطبة الجمعة , أو يتصدرون مجالس الدعوة إلى الله في المساجد أو  في وسائل الإعلام , فلا تكاد تستطيع حصر الأخطاء التجويدية في التلاة لأحد هؤلاء من كثرتها , اللهم إن لم يصل الأمر إلى الخطأ في الحركات والسكنات , فأين "حق تلاوته" من تلك القراءة ؟!

 

 
2-   وأما فيما يخص "حق تلاوته" عملا وتطبيقا , والذي أشار إليه ابن مسعود رضي الله عنه , فهو في الحقيقة غاية المقصود وجوهر وحقيقة المطلوب , وإذا كان إتقان التلاوة تجويدا وترتيلا من الوسائل والأدوات , فإن العمل والتطبيق من المقاصد والغايات .

 

 

 
وهنا لا يمكن إنكار وجود فجوة كبيرة عند المسلمين بين ما يتلونه من كتاب الله , وبين ما يقومون به من سلوك وممارسات على أرض الواقع , تخالف وتناقض تماما ما هم يتلون , فالسلوك والعمل لا يتطابق مع ما يأمر القرآن الكريم أو ينهى .

 

 
فبينما يتلو المسلمون في القرآن الكريم الأمر ببر الوالدين في أكثر من آية , قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } الإسراء/23  نرى العقوق الذي يتجاوز كلمة "أف" المنهي عنها في القرآن الكريم بمراحل ... يزداد يوما بعد يوم في صفوف الأبناء .

 

 
وبينما يأمر الله تعالى بصلة الرحم وتوزيع الميراث حسب ما أمر الله في كتابه في أكثر من آية من سورة النساء , قال تعالى : {  لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } النساء/11 , ترى الأرحام تتقطع بين المسلمين لأتفه الأسباب , وتُحرم النساء من الميراث في كثير من ديار المسلمين , اللهم إن لم يصل الأمر إلى أكل الأخ الكبير حقوق إخوته الصغار من الميراث .

 

 
وبينما ينهى القرآن - الذي يتلوه المسلمون - عن الربا وأكل أموال الناس بالباطل , قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } البقرة/278 وقال تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } البقرة/188 , لا نرى تجاوبا عمليا مع هذين النهيين ممن يتلون هذه الآيات من المسلمين على أرض الواقع .

 

 
إنها بعض المعاني التي يتضمنها قوله تعالى : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } , والتي تستحث المسلمين لمزيد من العناية والاهتمام بتلاوة القرآن الكريم , وتدفعهم لتفريغ الوقت والفكر عند إرداة تلاوة كلام الله , ناهيك عن التركيز عقلا والحضور قلبا والخشوع جوارحا والبكاء عينا أثناء التلاوة , لنجد السعادة الحقيقية التي طالما نبحث عن بعضها في الأسباب الدنيوية .