تصحيح فهم خاطئ عن الرزق
20 جمادى الأول 1436
د. عامر الهوشان

رغم تفصيل كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كل شيء يهم الإنسان ويحتاجه في حياته وبعد مماته , وبيان السلف الصالح لما يمكن أن يُشكل من المفاهيم والألفاظ والمصطلحات الشرعية , من خلال كتب التفاسير وشروح السنة النبوية وغيرها من كتب العلم الشرعي , إلا أن بعض الألفاظ والمصطلحات والمفاهيم الشرعية ما زالت تُفهم بشكل خاطئ من قبل بعض المسلمين في العصر الحديث .

 

وإذا كان لكل سوء فهم سبب كما هو معلوم , فإن من أهم أسباب الفهم الخاطئ لبعض المفاهيم الإسلامية عند بعض المسلمين هو الجهل بأمور هذا الدين الحنيف , رغم ضخامة الموروث العلمي والفقهي الذي تركه لنا السلف الصالح , ناهيك عن سهولة الحصول على المعلومة في العصر الذي نعيش فيه , والذي يشهد ثورة في هذا المجال لم يشهد التاريخ لها مثيلا .

 

وإذا كان الجهل بأمور الدين هو السبب العام في الفهم الخاطئ لبعض المفاهيم الإسلامية عند بعض المسلمين , فإن المادية المقيتة التي تغشى العالم المعاصر اليوم - والتي للغرب دور كبير في ترويجها في العالم الإسلامي وبين صفوف المسلمين , نظرا لتبنيه العلمانية "اللادينية" وإقصائه الدين تماما عن شؤون الحياة , ومحاولة استنساخ ذلك في بلاد المسلمين – هي السبب الخاص والمباشر في الفهم الخاطئ لمفهوم الرزق عند بعض المسلمين .

 

ويكمن الفهم الخاطئ في قصر مفهوم الرزق على المعنى المادي المتمثل بالمال أو غيره , بينما الحقيقة التي تشير إليه النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , تؤكد شمول معنى الرزق في الإسلام الأمور المادية والمعنوية .
لقد ذكر لفظ "الرزق" في القرآن الكريم 123 مرة , وكما جاء بمعنى الرزق المادي من مال وطعام ومطر , جاء بمعنى معنوي في أكثر من موضع , كمعنى الثواب في قوله تعالى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } آل عمران/169 , أي : يثابون على ما قدموا من أعمال وتضحيات .

 

كما فسر الشيخ السعدي مفهوم الرزق الوارد في قوله تعالى : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } آل عمران/ 212  , برزق القلوب من العلم والإيمان وغير ذلك من الأمور المعنوية فقال في تفسير الآية :

 

" فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر ، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان ومحبة الله وخشيته ورجائه ، ونحو ذلك : فلا يعطيها إلا من يحب" . تفسير السعدي ص95

 

وفي السنة النبوية ما يشير إلى أن مفهوم الرزق في الإسلام واسع ولا يقتصر على الأمور المادية فحسب ,فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعود قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيد ) صحيح البخاري برقم  3036

 

جاء في شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله – لكلمة : "رِزْقه" في الحديث :

 

الرزق هنا : ما ينتفع به الإنسان وهو نوعان : رزق يقوم به البدن ، ورزق يقوم به الدين , والرزق الذي يقوم به البدن : هو الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك , والرزق الذي يقوم به الدين : هو العلم ، والإيمان ، وكلاهما مراد بهذا الحديث  . شرح الأربعين النووية ص 101 - 102

 

إن المتبادر إلى ذهن كثير من المسلمين اليوم حين يسمعون عن توسعة الله تعالى على فلان أو غيره في الرزق , هو المعنى المادي فحسب , حيث لا يشكون لحظة أن المقصود هو كثرة المال والأمور المادية المشابهة , ولا يخطر ببال أحدهم غير هذا المعنى , إلا من رحم الله ممن آتاه الله علما وفهما وفقها في الدين .

 

والحقيقة أنه قد يكون المقصود بهذه العبارة – بالإضافة لكثرة الرزق المادي – أمور أخرى معنوية هي أهم من المال والمتاع المادي , فقد يكون المقصود الإيمان الصحيح السليم من البدع والمنكرات والشبهات , والذي هو في الحقيقة سبيل النجاة يوم القيامة , أو العلم الذي يبصر الإنسان بحقائق الأشياء , ويرشده إلى ما فيه صلاحه في الدنيا وفلاحه في الآخرة , أو الزوجة الصالحة أو الولد الصالح ....أو غير ذلك من الأمور المعنوية .

 

قال ابن منظور في لسان العرب : الرزق : هو ما تقوم به حياة كل كائن حي مادي كان أو معنوي , وهو ما يشير إلى المفهوم الواسع لمعنى الرزق في لغة العرب وفي الاصطلاح الشرعي .

 

إن من أهم آثار قصر مفهوم الرزق على الأمور المادية - والمال بشكل خاص - هو غفلة كثير من المسلمين عن ما رزقهم الله تعالى من أرزاق معنوية ظنوا بسبب فهمهم الخاطئ أنها لا تدخل في مفهوم الرزق , فظنوا أن الله حرمهم الرزق ومنحه لآخرين , بينما الحقيقة أن ما منّ الله به عليهم من رزق في الإيمان والعلم .......وغير ذلك مما هو باق , يفوق بأضعاف مضاعفة ما رزق غيرهم من مال ومتاع مادي زائل .

 

وبالمقابل فإن إدراك المسلمين للمفهوم الإسلامي الشامل للرزق له نتائجه وآثاره الإيجابية , حيث يسود الرضى عن الله تعالى , وتلهج الألسنة والأفئدة بشكره على نعمه الظاهرة والباطنة , ورزقه الواسع في جميع المجالات المادية والمعنوية .