بوتين وهزيمة الغرب: صناعة العالم الجديد
15 جمادى الأول 1436
أحمد محمود عجاج

عندما إنهار الاتحاد السوفياتي خرج من يقول ان التاريخ انتهى وان الرأسمالية المتلبسة بالديمقراطية انتصرت، وآخر يقول ان الصراع من الان فصاعدا هو صراع ديني وبالتحديد بين الاسلام والغرب. اتضح ان كل هذه التنبؤات كانت قاصرة، وان سنن الكون في التدافع هي المتحكمة في مسار الامم واحوال البشر. بعد عقدين من الزمن تقريبا تخرج روسيا مجددا رافضة علانية تسليم العالم الى الشرطي الامريكي، وترفض القبول بدور هامشي على خريطة العالم؛ روسيا، منذ ان تسلم فلاديمير بوتين السلطة خلفا للرئيس يلتسن المعروف بشغفه بالخمر، لم تعد ترى نفسها دولة صغيرة، ولم تعد تقبل بالقناعة العامة بأن الرأسمالية الغربية هي قدر العالم، وان الديمقراطية هي الحل السحري.

 

ثمة عوامل عدة ساعدت روسيا على الظهور مجددا كان اهمها شخصية بوتين نفسه، وثانيا ثروتها النفطية ثم بنيتها العسكرية علاوة على قدراتها الصناعية وبالتحديد في المجالات الدفاعية العسكرية. إن شخصية بوتين كانت واضحة منذ تسلمه السلطة، فهو رجل عمل في جهاز المخابرات في المانيا الشرقية، وبعد  انهيار الاتحاد السوفياتي عمل في بلدية ستالينغراد، وبعدها انتقل للعمل في احدى الوزارات المعنية بمبيعات اصول الدولة السوفياتية للقطاع الخاص، وهناك شاهد كيف تمكن رجال الاعمال والانتهازيون من الاستيلاء على اموال الدولة السوفياتية وصناعاتها تحت شعار الخصخصة وتحسين الانتاج ورفع مستوى المنافسة. استطاع بوتين ان يصل للسلطة، وعند وصوله كان في ذهنه ان يكون قيصرا وليس رئيسا مخمورا كسلفه يلتسن الذي اطنب الغرب في مديحه، كما مدح قبله الرئيس غورباتشوف الذي تفكك الاتحاد السوفياتي على يديه. يقول العارفون ان بوتين مهووس بالرجال العظام، وانه علق على حائط مكتبه صورة للقيصر نيكولاي الاول، واخرى للامبرطور الفرنسي نابليون،  وستالين  للدلالة على انه لن يكون رئيسا عاديا، وان بلاده ليست، كما يتصورها الغرب، مريضة وتحتاج الى خبراء من صندوق النقد الدولي او من اقتصاديين غربيين، ولهذا اعتبر ان انهيار الاتحاد السوفياتي كان اكبر غلطة جيوسياسية، وانه بتصريحه هذا رفض ضمنا سيادة الولايات المتحدة ومعها تركيبة النظام الدولي الحالي.

 

من المهم جدا في العلم السياسي دراسة شخصية الذين هم في السلطة لأن طبيعتهم وطموحاتهم تؤشر على ما يريدونه، ولأن قوة الشخصية هي التي تلعب دورا دائما في تغير الموازين سواء بالسلب او الايجاب. وتنم شخصية بوتين على انه رجل لا يريد ان يكون فاصلة في التاريخ بل يريد ان يعيد مجد الاتحاد السوفياتي ولكن بنكهة قيصرية، وعبر تشكيلة اتحادية مع الدول المجاورة تختلف عما كانت عليه ايام الاتحاد السوفياتي. سارع بوتين في سعيه لتحقيق حلمه الى  انتشال الروس من الفقر الذي اورثهم اياه سلفه يلتسن فأعتقل عدد كبير من رجال الاعمال الروس الذين اغتنوا على حساب ممتلكات الدولة، واعاد للدولة قدرتها على ادارة الموارد وبالتحديد قطاع النفط والغاز، وساعده أيضا ارتفاع اسعار الطاقة  فاستطاع ان يلملم جراح شعبه، وان يزيد الفائض المالي في خزانة الدولة، وان يعيد للروس كرامة مفقودة، ويحيي في نفوسهم عزة تاريخهم المجيد. هذا الاحياء لم يكن إلا من خلال عنصرين هامين هما: القومية الروسية والدين الارثوذكسي، وهما وصفة سحرية، اثبت التاريخ قوتها، لمن يريد ان يكون له شأن في هذا العالم.

 

تمكن بوتين من ترتيب البيت الداخلي، وإن كان بقوة الحديد والنار، وبدعم واضح من الكنيسة الأرثوذكسية، فأزاح كل معارضيه، وتحكم بمسار الاقتصاد العام والخاص، والاهم تركيزه الخاص على الهوية الثقافية للشعب الروسي، رافضا القيم الغربية، ومؤكدا ان لكل شعب خصوصيته؛ لم يأبه لكل الحملات الغربية عليه، بل استمر في اغلاق المحطات الاذاعية والتلفزيونية التي تبث نهجا سياسيا وثقافيا مغايرا، حتى اصبح الشعب مجددا لا يرى إلا صورة قائده، ولا يرى الا عظمة روسيا. لم يعد ممكنا اقناع المواطن الروسي ان بوتين مستبد لأنه يعرف ان بوتين هو الذي اعطاه شيئين مهمين لكل البشر وهما: الامن الغذائي، والكرامة والعزة.

 

انتهى بوتين من ترتيب بيته، وانتقل الى ترتيب علاقاته بدول الجوار، وتسوية ما أسماه الكارثة الجيوسياسية التي وقعت  من جراء انهيار الاتحاد السوفياتي. كانت خطواته متلاحقة في سبيل تعزيز التلاحم مع الجمهوريات السوفياتية السابقة، وفتح قنوات تعاون اقتصادي وامني معها، وضرب من يختار منها الانفصال؛ فاجتاح الشيشان ودمر عاصمتها غروزني تدميرا شبه كامل تحت مرأى ومسمع العالم الحر! ثم مضى الى استخدام سياسة الترغيب والتخويف لحمل الجمهوريات الاخرى على السير في المدار الروسي، وكان له ما اراد تقريبا. وعندما شعرت الدول الغربية بخطر سياسته، حرضت عليه جورجيا تحت شعار الديمقراطية فكان رده حاسما باجتياح هذا البلد وتحدي رئيسه ميخائيل تشاكسيفيلي المدعوم من امريكا، وفصل مقاطعتي جنوب اوستيسيا وابخازيا عنها، ولم يتوقف إلا عند حدود العاصمة الجورجية بعدما رضخ له الجميع بمن فيهم امريكا ومعها الامم المتحدة وقبلوا بما فعله ومنحوه الشرعية. هذ الرضوخ الامريكي لم يكن عن قناعة بل كان امرا واقعا لأن مخططيها لم  يعوا تماما شخصية هذا الرجل، ولم يفكروا مليا في كيفية وقفه عند حده، بل ظنوا انه يريد ان يثبت للداخل الروسي انه قادر على حماية البلاد، وتوفير مقام ما لها في المعادلة الدولية. كانت القناعة الاوروبية والغربية ان بوتين سيكتفي بهذا القدر من تحصين الذات، وبعده يمكن التفاوض معه حول وقف التسلح العسكري، وربما ادخاله في منظومة الاتحاد الاوروبي، والتخلص لاحقا من سلاحه الفتاك ضمن تسويات سياسية تعلي الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية على الدور التاريخي للشعوب والدول.

 

اخطأ الغرب مرة اخرى مع الروس فقربوا بوتين اكثر واطلقوا الكثير من التصريحات المعبرة عن تفهمهم لحالة الاحباط التي يعيشها من جراء تفتت الاتحاد السوفياتي، لكنهم اكتشفوا متأخرا ان هذا الرجل لا يتوقف عند حد، وان ما يطلبه اكثر مما يمكن للغرب ان يتسامح به. لقد بدأ بوتين يثير القلاقل ليس فقط في جواره الطبيعي بل في الخارج باستخدامه سلاح النقض في مجلس الامن الدولي ليحبط الكثير من السياسات الامريكية في المنطقة. كان بوتين بارعا في التفاوض كبراعته في استخدام القوة؛ كلما اراد الغرب منه شيئا اعطاه مقابل ثمن مواز ولربما اعلى بكثير.

 

عندما تحركت المعارضة في اوكرانيا التي يعتبرها الروس جزءا من تاريخهم، والتي هي جزء طبيعي من جغرافيتهم، سارع الغرب لدعمها واعتبارها حركة شعب يريد ان يلتزم بالديمقراطية والتخلص من رئيسه المتهم بالفساد؛ رأى بوتين ان هذا الدعم محاولة لتطويقه وعبث في الحديقة الخلفية الروسية، والاطاحة بنظام فيكتور يونكوفيتش المؤيد لروسيا. لم يهتم الغرب لقلق بوتين فدعم المعارضة وهرب الرئيس الموالي لموسكو، واعلن الغرب مجددا انتصار الديمقراطية. كان رد بوتين حاسما وقويا: فصل جزيرة القرم الاستراتيجية عن اوكرانيا وضمها الى بلاده، وحرض الروس المقيمين في شمال اوكرانيا المعروفة بروسيا الجديدة على التمرد، ومدهم بالسلاح وبالخبراء والمقاتلين، وبدأ يقضم رويدا اراضي اوكرانيا غير آبه بكل الصرخات والاحتجاجات القادمة من الامم المتحدة والغرب.

 

كشف بوتين هشاشة الغرب وخوره بكل ما في هذه الكلمة من معنى؛ فالرئيس الامريكي أوباما رغم كل الدلائل اختار البحث عن علاقة افضل مع بوتين تحت شعار " اعادة العلاقة" ((Reset، ومشى في محاباته لإعتقاده ان بوتين سيقبل بقيادة امريكا للعالم. وقد وصل هذا التصور الامريكي الطائش لدرجة قال معها اوباما، وهو يشاهد صرخات الاوكرانيين المناشدة له بتسليحهم، انه حتى " لو سلحنا الاوكرانيين فلن يستطيعوا الانتصار على الروس"؛ أوباما بهذا التصرف قلب مبادئ الدبلوماسية والتفاوض رأسا على عقب، وأعترف بالهزيمة قبل ان يتحرك، وأقر بإحتلال الروس لأوكرانيا. كذلك راهن القادة الاوروبيون أيضا على بوتين وتصوروا انهم قادرون على استيعابه وادخاله في لعبة الدبلوماسية، وجره الى الموافقة على اتفاقيات تعطيه فتاتا وتبقي الميزان الدولي كما هو؛ ما يريده الاوروبيون والامريكان وبأي ثمن هو الابقاء على نظام دولي احادي يتمحور حول ذاتهم وحضارتهم، ومؤسساتهم التي اقاموها بعد الحرب العالمية الثانية. لا يريد الاوروبيون ان يعترفوا ان العالم تغير، وان المؤسسات الدولية اصبحت عديمة الفائدة لعالم جديد تبرز فيه دول قوية مثل البرازيل والصين وتركيا والهند. لا يزال الاوروبيون يعتقدون ومعهم الامريكان انهم محور العالم وقلب الحضارة!

 

ان الاوروبيين كشعوب وبعد فترات الرفاهية التي عاشوها بعد الحرب العالمية  الثانية، وبسبب الويلات التي عانوها في الحرب، لم يعودوا يطيقون الحروب ، ويفضلون دائما التفاوض، ويعتقدون ان اية مشكلة، مهما كانت، يمكن حلها بالسياسة. لقد عبر مستشار الرئيس الامريكي الاسبق روبرت كيغان في كتابه "القوة والجنة: اوروبا وامريكا في النظام الدولي الجديد" عن هذا الضعف النفسي فأشار الى ان اوروبا لم تعد لديها الشهية لشن حروب بل تكتفي بحل المشاكل بالإعانات والدبلوماسية.

 

سكت الاوروبيون والامريكان على ضم جزيرة القرم، وفصل شرق اوكرانيا، وانتهاك اتفاقية نزع السلاح النووي الاوكراني الذي كان الضامن الاوحد لسيادة اوكرانيا ووحدة اراضيها، وكان سكوتهم محكوما بقناعة انهم لا يريدون ان يستفزوا بوتين اكثر، وان الحل بفرض عقوبات متدرجة لإجباره على التفاوض بنية طيبة. هذه السياسة غير الاوروبية وغير الامريكية في طبيعيها، لازمتها سياسة اخرى وهي ان بوتين رغم كل اخطائه شريك هام في محاربة الارهاب. لقد تمكن بوتين بالفعل من تزعم مقولة محاربة الارهاب وروج بشغف لما مكافحة التطرف الاسلامي مبرزا اياه بأنه الخطر الاكبر الذي يهدد العالم والاستقرار؛ بهذا المنطق الميكافيلي تمكن بوتين من التعاون مع امريكا، ومع اوروبا، واستطاع ان يحصل على دعم الصين التي وجدت في شعاره مصلحة في حربها مع الانفصاليين المسلمين؛ لقد اصبح بوتين " الدموي" عضوا فعالا ومهما في نادي محاربي الارهاب الدولي.

 

يعرف الاوروبيون ومعهم الامريكان، وكذلك بوتين ان اية تسوية مستقبلية ستكون حتما على حساب وحدة اوكرانيا وسيادتها، وان اية حكومة مستقبلية في اوكرانيا لن تكون قادرة على تحدي القرار الروسي. لقد حقق بوتين بسياسته تلك ما يريده، واستطاع أن يغير ليس فقط جغرافية الجوار الروسي بل  نظرة العالم الى النظام الدولي؛ لم يعد لمبدا عدم شرعية ضم اراضي الغير، واحترام الاتفاقيات اية قدسية، ولم يعد لأمريكا الهيبة التي كانت لها، ولم يعد بوسع الاتحاد الاوروبي ان يغير شيئا. لقد غير بوتين قوانين اللعبة، وفرض نفسه سيدا جديدا يخشاه الغرب، وبهذا رأى فيه قادة مستبدون من العالم الثالث، مستعدون مثله لإراقة الدماء، مثالا يحتذى للبقاء في السلطة إن امكن للأبد. استطاع بوتين بسبب ضعف القادة الاوروبيين، وتذبذب الرئيس الامريكي في ملفات عديدة، ان يحصل على ما يريده ولم يدر القادة الغربيون أنهم بهوانهم وعجزهم لم يخسروا انفسهم فقط بل خانوا شعوبهم، وجروا العالم مجددا الى لعبة الحروب والفتن والاقتتال.

 

إننا نشهد مع صعود بوتين ولادة نظام دولي جديد يداس فيه القانون، وتقسم فيه الدول،  وتفوح منه رائحة الحروب والكراهية.