ما بعد شارلي إيبدو
20 ربيع الأول 1436
أمير سعيد

قبل أربعة أيام من الهجوم المسلح على مجلة شارلي إيبدو كتبت في مقال سابق عن الاعتداءات على مساجد المسلمين التي سبقت حادثة فرنسا: "هذا العدوان المتكرر بدا أنه يحظى بتشجيع واضح من أجهزة الاستخبارات الغربية، وليس حاصلاً من تلقاء نفسه، ولا خارج إرادتها، والدليل أن معظم هذه الاعتداءات "قيدت ضد مجهول" ولم تحظ باهتمام أمني يذكر برغم مناشدات المؤسسات الإسلامية الممثلة للجاليات المسلمة، ورغم توفر كاميرات المراقبة التي لم تفلح في أي مرة عند تفريغ محتواها في تحديد هوية أي معتدٍ، حتى لو كان "إرهابياً" كمثل الحالة السويدية التي استهدف فيها مصلون حرقاً، ولم يقتصر عن الإساءة للمساجد فقط".

 

 

حصل الهجوم صباحاً، وفي الليل قاد تحليل الكاميرات إلى جوار شواهد أخرى إلى مشتبه بهم، واتسعت دائرة الاتهام على الفور.. وفي اليوم ذاته، لم ترشح أي معلومة عن الهجمات التي استهدفت مساجد بطلقات رصاص، ربما لم تختلف كثيراً عن تلك التي قتل بها رسامو الكاريكاتير الساخرين من خير الأنام صلى الله عليه وسلم، مع أن الهجمات وقعت فيما وضعت أجهزة الأمن الفرنسية في حالة التأهب القصوى، وغزت كل مناطق باريس، وانتشرت حول وسائل الإعلام ومراكز التسوق، والعديد من الأهداف.. التي ليس من بينها بكل تأكيد مساجد المسلمين، مع أن توقع انتقام متطرفين إرهابيين من اليمين الفرنسي من مساجد المسلمين هو أمر بدهي لم يكن ليفوت على أي جهاز أمني عريق لو كان حقاً يريد ألا يحصل هذا العدوان ويتكرر في مساجد كثيرة.

 

 

كان مبلغ جهد السلطات الفرنسية الاحترازي هو دعوة الحكومة الفرنسية لعدم الخلط بين الإسلام والإرهاب، وإبداؤها رفضها لأي عدوان يستهدف مساجد المسلمين، هكذا، دون أن ينسحب ذلك أمناً وحماية لمساجد يفترض أن يؤمها 10% من سكان فرنسا! ناهيكم عن أن كل الساسة ووسائل الإعلام أفاضوا في نعت الهجوم بـ"الإجرامي" و"الوحشي" و"الإرهابي"، وتجاوزوا تماماً عن الاستفزاز (في أقل الأوصاف الذي يمكن أن توصف بها جرائم شارلي إيبدو بحق مقدسات الإسلام)، في مقابل تغاضيهم عن الهجمات المسلحة على مساجد المسلمين (رغم الإقرار بالفارق بين الإعدام الميداني واستهداف المباني)، وانتقل هذا الشعور إلى المواطنين الفرنسيين العاديين بالتبعية، فطفقوا يتظاهرون بالآلاف رافعين شعار "أنا شارلي"، الذي يوحي للوهلة الأولى بأن استنكارهم يتعدى الحادثة إلى التأييد الضمني لـ"حرية" مجدفي المجلة ومهرطقيها في النيل من الدين الإسلامي باسم "حرية التعبير"، وهو ما امتد بشكل مبالغ فيه لكل أنحاء أوروبا؛ فنكست الأعلام وخرجت التظاهرات لحرف الحادثة في اتجاه المسلمين، كما لو كان مقصوداً بحد ذاته أو يكاد.

 

 

لا جرم أن العملية مؤثرة لكون الفرنسيين لم يعتادوها منذ زمن طويل، واعتادوا على أن يكون الضحايا دائماً خارج حدود بلادهم، ومن أعدائهم وليس منهم، ولا جرم أنها قد قرعت آذانهم، وأنعشت بعقولهم مشاعر الكراهية التقليدية للوجود الإسلامي في بلادهم، والذي "زاد عن حد الاحتمال"، ولا شك أنها قد هزتهم، كونها واجهت رأياً ورسومات بإطلاق الرصاص، وهو ما تستنكره جموع من الغربيين والشرقيين على حد سواء.

 

ولا شك أن هذا الهجوم هزنا نحن أيضاً كمسلمين؛ فما ستجلبه الحادثة من أضرار على الملايين من المسلمين في أوروبا وحولها، كونها –  في حس "المجتمع الدولي" – "عملاً إرهابياً إجرامياً" ينتسب فاعلوه إلى المسلمين، وما سيجره هذا من اعتداءات وتهميش وإقصاء تقع على المسلمين، لاسيما مع تصاعد شعبية اليمين المتطرف في أوروبا، الذي أهداه الهجوم قوة دفع هائلة لتسيد الوضع، والنجاح في الانتخابات القادمة في كثير من بلدان أوروبا، ووفر له منصات الانطلاق لمزيد من المطالبات بالتضييق على المسلمين حد طردهم من أوروبا أو معاملتهم خارج نطاق القانون واستثنائهم مما توفره فسحة "الحريات النسبية" من مجال للدعوة لدينهم والدفاع عن عقيدتهم وفق الأطر المتاحة..

 

 

ولكي ما نسترسل في هذا السيناريو دون الأخذ بالاعتبار جذوره الممتدة، دعونا لنأخذ القصة من أولها.. لم يكن بأوروبا مسلمون سوى من هم تحت سلطة الحكم العثماني حتى وقت قريب، وحينما أنهته أوروبا، وتعلمت شيئاً من "التسامح" من العثمانيين، أرادت أن تمثل نموذجاً في تقبل أقليات من غير دينها.. فعلت لعقود قليلة، لكنها لم تقوَ على التحمل طويلاً.. سرعان ما عادت القهقرى، وبدأت في التنكر شيئاً فشيئاً لمبادئها "الحداثية" الجديدة.. وهنا في قلب الثورة الأوروبية على "التعصب الديني"، من قلب باريس، حصل ما حصل، سواء أكان مبرمجاً مثلما قالت بعض المواقع الأوروبية (كموقع آي بي تايم الذي نشر تقريراً يتهم الموساد بارتكاب الهجوم قبل أن يبادر إلى حذفه من صفحته!)، ويثير تساؤلات كتلك التي أثارها نور الدين بوزيان مراسل قناة الجزيرة في باريس، حين تحدث لأول وهلة عن "اختراق الإجراءات الأمنية، ومعرفة موعد اجتماع هيئة التحرير في المجلة، والبرود الذي نفذ به المهاجمون دون قلق أو توتر".. أو كان "عفوياً، لم تشجع فيه أجهزة استخبارات المهاجمين على فعله".. سيان بين هذا وذاك من حيث الناتج؛ فهي تقود إلى مزيد من تنكر أوروبا سريعاً لمبادئ ثوراتها الحديثة ضد التعصب، وانتصارها الظاهري للحريات وحقوق الإنسان والمساواة.. إلى آخر هذه اللافتات التي بدا أن أوروبا تضيق بها ذرعاً يوماً بعد يوم، بعد أن انتشر الإسلام في ربوعها، وظهر لها أن مقاومة انتشاره لا يمكن أن يكون عبر آليات قانونية اعتيادية توفرها أجواء "الحرية" تلك، وأن عليها أن تكون أكثر "حزماً وراديكالية" في التعامل مع مشكلة متصاعدة كتلك.

 

 

على أية حال، دعونا لا نبعد كثيراً عن الحادثة.. المجلة لها "عذرها" التجاري على الأقل – لا الديني أو الأخلاقي طبعاً - فيما اقترفته بحق المسلمين؛ فهي حين أعادت نشر الرسوم المسيئة لنبينا صلى الله عليه وسلم عام 2006 والتي كانت نشرت في الصحيفة الدنماركية باعت من تلك النسخة نحو نصف مليون مضاعفة معدل توزيعها بعشرة أضعاف (55 ألف نسخة)، وكذا في كل ما تسيئ به للإسلام، هي تجد له رواجاً كبيراً، وهذا الرواج "تجلل" في المظاهرات الأخيرة التي لم يرفض فيها الفرنسيون فكرة القتل وحدها كتعبير عن رفض الإساءة الدينية، وإنما رفعوا شعار "أنا شارلي" بما تحمله هذه العبارة من دلالة رمزية كبيرة، وبما تضمنه من إشارة إلى أحقية تلك المجلة في الإساءة للمسلمين وحدهم؛ فللعلم المجلة وإن أساءت للبابا وبعض الراهبات؛ فهي لم تمس المسيح عليه السلام، ولا هي تعرضت لأي رمز يهودي حتى يقال إنها مفرطة في انتقاد كل "الديانات"، وهذا ليس رأينا في تجاوز هذه المجلة حد الإطاقة في تحمل فكرة "حرية التعبير" مهما بدا أحد متقبلاً لها لحدود بعيدة؛ فحتى فاينانشيال تايمز، الصحيفة البريطانية الرصينة، وصف أحد كتابها وهو توني باربر الخط التحريري للمجلة بـ"السخيف وغير المسئول"، مشدداً على أن "حرية التعبير لا ينبغي أن تمتد إلى رسم صورة ساخرة للدين، ولن يكون مفيدا لمجلة شارلي إبدو، أو الصحيفة الدنماركية يولاندس بوستن التي تزعم الحرية باستفزاز المسلمين، فهذه الصحف دنيئة وغبية وغير مسئولة".

 

 

لكن، ما رآه باربر غباءً ودنائة؛ فإن جموعاً كثيرة من الفرنسيين لم تشاطره الرأي، وانحازت دون طويل تفكر إلى فكرة "حرية التعبير" المجردة مهما نالت من آخرين، لاسيما لو كانوا مسلمين، لا يحمل لهم معظم الفرنسيين لهم وداً.. أعني أن الهجوم، وإن مثل صدمة للفرنسيين خاصة والأوروبيين عامة، إلا أنه قد كشف عن شعبية هذا السلوك العدواني تجاه المسلمين؛ ففي وقت حصل كل هذا التضامن ضد الصحيفة في محنتها؛ فإن الأصوات الرافضة للعدوان على المسلمين لم تزل خافتة بدليل أن العدوان المتكرر على المساجد لم يلق وقفة حازمة كتلك مثلاً التي تجدها في بلد كمصر - حين يتعرض مسيحيوه أو كنائسهم لاعتداءات ما -  يحوي 4,5 مليون مسيحي يمثلون نحو 5% من السكان بحسب إحصاءات رسمية وأخرى دولية كمركز بيو الأمريكي الشهير (أي أقل من نسبة مسلمي فرنسا بمقدار النصف تقريباً).

 

 

الغربي له قيمة لدى بني قومه، ودولته، وقارته، وهذا مستقر لديهم، وهو ما يخجلنا نحن حيال قيمة المسلم، ويخجل العالم برمته لأنه صار منافقاً لهذه الدرجة، وصار متقبلاً لهذا التفاوت في تقدير النفس البشرية، واحترامها ما دامت مسيحية، واحتقارها ما دامت مسلمة؛ فالصحفيون قد قتلوا بأعداد "منافسة" في كل من مصر وسوريا وفي ظروف مختلفة، والمجزرة لا تمثل إلا بقعة دم مقارنة بأنهاره في سوريا والعراق وبورما وإفريقيا الوسطى، والكثير من البلدان التي تُسأل فرنسا بشكل مباشر عما اقترفته خلال السنوات الماضيات فضلاً عن القرنين الماضيين التي قتلت فيهما الملايين من المدنيين المسلمين الأبرياء في الجزائر خصوصاً وإفريقيا عموماً، إضافة إلى الشام..

 

 

 

ردات الفعل لم تظهر بعد، لكنها على ما يرشح الآن من معطيات يقود إلى أيام صعبة للمسلمين في فرنسا خصوصاً، وأوروبا عموماً، ونحن إن أردنا أن نسترسل في احتمال وقوف جهات غير مسلمة، وراء تهيئة المناخ للفاعلين وتشجيعهم عليه، لدعم افتراضنا هذا دقة اختيار فرنسا كأكبر مستوعب لمهاجرين مسلمين في أوروبا كلها، وما ستتمخض عنه سياسة جديدة لتقليل تأثير المسلمين أو تقليم أظافرهم في فرنسا سينسحب على سائر أوروبا الغربية، والشرقية بالتبعية خلال المستقبل المنظور. وإذا افترضنا ذلك لوجدنا أن حرص السلطات الأمنية على قتل المشتبه بهم، كالأخوين كواشي، ومحتجز رهائن المتجر الفرنسي، الشاب أميدي كوليبالي، محل شك آخر، لكن بعيداً عن كل هذا، وكما تقدم، سواء أكان هذا أو ذاك؛ فإن النتيجة أنه رغم أن الشرطي الفرنسي الذي قتل في الهجوم كان مسلماً؛ فإن المسلمين تحملوا المسؤولية، وكل الأصوات السياسية التي تدعي أنها تعمل من أجل ألا يتحمل المسلمون مسؤولية الجريمة هم لا يقومون بالفعل بجهود حقيقية لكيلا يدفع المسلمون الثمن، لاسيما أن الشعوب الأوروبية باتت مهيأة أكثر من أي وقت مضى خلال العقود الماضية لإبداء قد أعلى من التعصب ضد المسلمين المسالمين في أوروبا.