أنت هنا

فقاعة فيرغسون أم رمادها؟!
8 صفر 1436
موقع المسلم

لم تكد تشتعل اضطرابات مدينة فيرغسون بولاية ميزوري الأمريكية على خلفية قرار أصدرته مؤخرا هيئة المحلفين العليا الأمريكية بعدم إصدار لائحة اتهام بحق شرطي أطلق النار على المراهق الأسود مايكل براون (18 عاما) وأرداه قتيلا.. حتى هدأت!

 

فالاندفاع الذي بدت عليه الاضطرابات وامتداداتها إلى أكثر من 180 نقطة في الولايات المتحدة، لاسيما في الشرق الأمريكي، ثم انعكاس ذلك في بعض مناطق السود في أوروبا، خاصة في بريطانيا وألمانيا، قد أوحت جميعها بأن رقعة الاضطرابات ستتسع جغرافياً وتطول زمنياً، غير أن الأحداث لم تصدق هذا الإيحاء؛ فسرعان ما تراجعت حدة التوتر، وعاد الهدوء إلى المدينة، ونقاط التوتر الأخرى في الولايات المجاورة.

 

وتفسيرات هذا التراجع متنوعة؛ فقد يوحي التراجع بأن الحادثة قد تم لملمتها من خلال السلطات الأمريكية عبر فتح تحقيق من وزارة العدل الأمريكية، فلقد ذكر وزير العدل اريك هولدر بأن "ثمة تحقيقين جاريان ووعد بنتائج سريعة من أجل إعادة الثقة بين الشرطةوالمواطنين السود."، وهو ما بدا أنهما قد أسفرا في وقت لاحق إلى "الإيحاء" إلى الشرطي الأمريكي دارين ويلسون، الذي قتل دون داعٍ مواطناً أمريكياً أسودَ اتهمه بالسطو على محل تجاري قبل ثلاثة أشهر، بأن يستقيل من منصبه، وهو ما فعله لاحقاً، ملمحاً إلى توصية من الشرطة له بذلك.

 

أيضاً، بالتفاهم الذي أبداه الرئيس الأمريكي ذو الجذور الإفريقية أوباما، الذي اعترف بأن :"الاحباطات التي شاهدناها لا تتعلق فقط بحادث بعينه. انها لها جذور عميقة في مجتمعات كثيرة من الملونين الذين لديهم احساس بأن قوانيننا لا يجري دائما إنفاذها بطريقة موحدة او منصفة."

 

كذلك، بالتدخل الحازم، والذي تجنب إراقة مزيد من الدماء في نفس الوقت من جانب السلطات الأمنية الأمريكية التي استعانت إلى جانب الشرطة بقوات من الحرس الوطني والمباحث الفيدرالية، حيث مكنها أسلوبها الاحترافي من تجنب القتل ودفع الأمور إلى مزيد من التعقد برغم نجاحها في اعتقال أكثر من أربعمائة من المتظاهرين الذين اتهمتهم بإثارة الشغب وارتكاب أعمال عنف ونهب وتخريب، إذ اقتصر استخدامها لأدوات غير قاتلة في معالجة تلك الأزمة مثل إطلاق الغاز المسيل للدموع والهراوات وقنابل التعمية، برغم مواجهتها لاحتجاجات استخدم فيها الطرف الآخر السلاح الناري وإن كان على نطاق محدود.

 

وقد يفسر هذا التراجع بظرفية الجريمة، وعدم قدرة الأمريكيين السود على إطالة نفسهم، وأمد احتجاجاتهم، لأسباب عديدة، منها حلول "عيد الشكر" الذي يحظى باهتمام كبير لدى الأمريكيين، وكذلك سقوط الثلوج على العاصمة الأمريكية وبعض مدن الاحتجاجات بما لم يمكن الغاضبين من مواصلة غضبهم أو منحه زخماً شعبياً أكبر.

 

كذلك قد نقرأ خمول المحتجين في سياق مادية المجتمع الأمريكي الآخذة في التسيد حتى على بعض قيم الحرية وحقوق الإنسان، وانهماك المواطنين الأمريكيين، سوداً وبيضاً في تلبية متطلبات الحياة المعيشية والرفاه أكثر من حرصهم على إثارة قضايا، قد يرى بعضهم أنها هامشية في ضوء حصول السود على كثير من حقوقهم.

 

لكن مع ما تقدم، أليس الغضب الذي اندلع واشتعل كنار في هشيم مؤشراً على تناقضات هذا المجتمع الذي نشأ على استغلال الملونين، لاسيما السود، الذين جلبوا كعبيد منذ القرن السابع عشر، لخدمة "السيد الأبيض"، ثم لم يحصلوا بعد أربعة قرون على كامل حقوقهم من دولة تحاسب العالم على ملفاته الحقوقية؟!

 

أوليس ما جرى قد كان من المؤكد أنه لم يكن ليحدث لولا أن الضحية كان أسودَ بما يعني أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن السود بغالبيتهم بعد كل هذه القرون ما زالوا يشعرون بالمرارة إلى حد لم يكن البعض ليتصوره، ولا ليتصور ما فجره الغضب من شعارات وهتافات تؤشر إلى حجم الألم النفسي لدى السود في "بلاد الحرية" المدعاة؟!

 

إنه حتى في فيرجسون التي تفجر فيها الغضب تعيش غالبية سوداء لكن البيض يهيمنون على إدارتها! فلماذا؟! ولماذا إذن "تعظ" أمريكا العالم في شأن حقوق الأقليات الدينية والعرقية، وهي لا تبالي بها في عقر دارها؟!

 

ولقد تكون أحداث السود الأخيرة ظرفية فعلاً بالنظر إلى محدودية التمييز الذي تم رصده من خلال الكاميرا، وتذرع الشرطي بأنه كان سيفعل مثل ما فعل لو واجه أبيض، لتصوره أنه يواجه مسلحاً، وهو ما قد يكون صحيحاً، ربما، لكن، أوليس رد الفعل الممتد دالٌ، رغم انحساره السريع، على أن المسألة تتخطى كونها فقاعة طارئة، إلى كشفها عن رماد ينتظر أحداثاً أكبر ليضطرم، ويفجر براكين الغضب الإثنية والدينية والطبقية في هذا البلد القائم على مصالح مشتركة بين مواطنيه؟!