28 ربيع الأول 1436

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرجو أن تتحملوني وتستمعوا لي، وإن كانت قصتي طويلة لكنني سأحاول قدر المستطاع الاختصار، فأرجو أن تقرؤوا قصتي، لا أريد أن أفجع قلوبكم، فإن الأمر حقًا مفجع.
أنا شاب مسلم، بعد سنوات من الالتزام انتكست انتكاسة عجيبة حزينة، بعد سنوات قضيتها لا أقول كلها في طاعات لكن حاولت ما استطيع فعله من طاعات، لكن وللأسف مع هذا كله انتكست في المحرمات، وكنت دائمًا أدعو اللهَ ألا يأتي يومٌ أنتكس فيه، وللأسف حصل.
أنا لا أسألكم أن تبينوا لي طريق التوبة، ولا أن تشرحوا لي طريق العودة، فهو واضحٌ لمن يريده، لكن المشكلة أنني للأسف أحاول أن أصارح نفسي: هل حقًا أريد الاستقامة؟، والجواب وللأسف: نفسي نفرت نفورًا شديدًا.
أريد منكم أن تبينوا لي بعض الإجابات: أنا لم أجاهر علانية بالانتكاسة، فأهلي وأصحابي لا يزالون يظنون بي الخير، ويثنون علي، فماذا أفعل؟! هل أقول لهم كلامكم الآن خطأ وأنا تغيرت.. أم أسكت.. أم ماذا بالضبط؟.
وأيضًا أنا كان من ضمن أحلامي التي تلاشت أن أتزوج من فتاة صالحة، وأمي الآن تخبرني عن فتيات وأنا لا أعرف ماذا أقول لها؟، هل أتزوج من امرأة صالحة، لتكتشف أنها تزوجت من رجل سيء؟، أم أتزوج من سيئة مثلي؟.
وأيضًا أصحابي يثنون علي في وجهي، وبعض كلامهم صحيح في الماضي، لكنه الآن غير صحيح، فهل علي أن أقول لهم أنني تغيرت؟. أيضًا عندنا في الحي مساجد صغيرة، فعندما أدخل أصلي يقدمونني للصلاة، لأني أحسن قراءة القرآن الذي أضعته ولم أرع حقه، فهل أمتنع ويتقدم من يخطأ في القراءة، أم ماذا أفعل؟.
أنا في حيرة من أمري، أراني متذبذب حائر، لا يريد طريق الاستقامة للأسف، ولا يريد طريق الانحراف، لا يعرف ماذا يريد، أصابتني الأمراض النفسية والجسدية، وأكلني الهم والغم، ولا أعرف أصلاً لماذا أعيش.
سؤال أخير: هل الأعمال الصالحة؛ من صيام أو قراءة قرآن أو طلب علم، في الفترة السابقة، هل تحبط؟، وماذا أفعل مع نفسي؟ـ طريق التوبة أعرفه، مفتوح لمن سلكه، لكني لا أريد سلوكه، أو بمعنى أصح لا أتحمل مشاقه فقعدت.. أنا أرسل لكم لأني أريد من أتحدث إليه، أريد من يسمع مني، أفتقر إلى أمور كثيرة، عسى أن تعينوني.

أجاب عنها:
همام عبدالمعبود

الجواب

أخانا الحبيب:
السلام عليكَ ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكَ، وشكر اللهُ لكَ ثقتكَ بإخوانِكَ في موقع (المسلم)، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، آمين.. ثم أما بعد:
قرأت رسالتك أكثر من مرة، وعلمت منها أنك تنعي حالك الذي أصبحت عليه الآن؛ حيث تقول: "بعد سنوات من الالتزام انتكست انتكاسة عجيبة حزينة"، وتوضح أنك "انتكست في المحرمات"، وتذكر في رسالتك أنك لا تطلب منا أن نبين لك "طريق التوبة"، ولا أن نشرح لك "طريق العودة"، فهو "واضحٌ لمن يريده"، وتؤكد ذلك بقولك "طريق التوبة أعرفه، لكنني لا أريد سلوكه، أو بالأصح لا أتحمل مشاقه"!.
وقد طرحت في رسالتك عدة أسئلة مهمة؛ حيث أكدت أنك لم تجاهر بالمعاصي، لكنك تقول: "أهلي وأصحابي لا يزالون يظنون بي الخير، ويثنون علي، فهل أقول لهم كلامكم الآن خطأ وأنا تغيرت أم أسكت؟". وتضيف: "كان من أحلامي أن أتزوج من فتاة صالحة"، وتسأل: "هل أتزوج من امرأة صالحة، لتكتشف فيما بعد أنها تزوجت من رجل سيء؟، أم أتزوج من سيئة مثلي؟".
وتستطرد قائلاً: "عندما أدخل مسجدًا في الحي لأصلي يقدمونني للصلاة، لأني أحسن قراءة القرآن الذي أضعته ولم أرع حقه، فهل أمتنع؟". وتتساءل: "هل تحبط الأعمال الصالحة؛ التي قدمتها في الفترة السابقة، من صيام أو قراءة قرآن أو طلب علم؟".
وتختتم رسالتك بقولك: "أنا في حيرة من أمري"، "أراني متذبذب حائر"، "لا أريد طريق الاستقامة"، و"لا أريد طريق الانحراف"، و"لا أعرف ماذا أريد".. فقد "أصابتني الأمراض النفسية والجسدية"، و"أكلني الهم والغم"، و"لا أعرف لماذا أعيش؟!".
وأستعين بالله وأرد على استشارتك فأقول:
1) الإيمان يزيد وينقص: هذا ما عليه أهل السنة والجماعة، فهو يزيد بالطاعات والقربات والأعمال الصالحة، وينقص بالمعاصي والذنوب والآثام، كما أن الناس من حيث الإيمان درجات، فهناك صاحب الإيمان الضعيف أو المتوسط أو صاحب الإيمان القوي.
2) للقلوب إقبال وإدبار: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (إنَّ لهذه القلوب إقبالًا وإدبارًا. فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض). وقال علي بن موسى (من علماء السلف): (إن للقلوب إقبالًا وإدبارًا ونشاطًا وفتورًا، فإذا أقبلت أبصرت وفهمت، وإذا انصرفت كلَّت وملَّت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها).
3) لكل شيئ شرة وفترة: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ). رواه ابن حبان في "صحيحه" (1/187)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (56). وقال صلى الله عليه وسلم: (أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ). رواه البخاري ومسلم، وقال ابن القيم – رحمه الله: (تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم؛ رُجي له أن يعود خيرًا مما كان).
4) نعم لنقد الذات لا لجلد الذات: لا شك أن نقد الذات والوقوف مع النفس ومحاسبتها من آن لآخر بهدف تقويمها وتطويرها وترقيتها أمر إيجابي ومطلوب، غير أن البعض لا يفرق بين هذا المعنى ومفهوم "جلد الذات"، والذي يمثل ظاهرة سلبية تدفع الإنسان إلى أنْ يبقى في دائرة السلوك التعذيبي. فيجب علينا أن نراعي الفرق بين هذين المفهومين ونحن نسعى لإصلاح وتقويم أنفسنا. لا مانع من أن تتهم نفسك بالتقصير في حق الله، شريطة أن تجعل من ذلك زادًا ودافعًا نحو الطاعة والعبادة والعودة إليه سبحانه.
5) لله في كونه سنن وفي خلقه شئون: والعاقل لا يجب ألا يغفل عن سُنن الله الكونية، فقد أُودِع اللهُ الكون سُننًا ثابتة، لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، ومن سنن الله الكونية أن "الزمن جزء من العلاج"، فمهما ذهب المريض إلى أمهر الأطباء، وحصل على أغلى الأدوية، فلا يمكن أن يتم له الشفاء إلا بمرور "الوقت"، فلا ينكر عاقل أن الزمن جزء ضروري من العلاج.
6) احذر القنوط من رحمة الله: فعن أبي هريرة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قال: قال رَسُول اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ): "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب اللَّه تعالى بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اللَّه فيغفر لهم" (رواه مُسْلِمٌ).
كما أستعين بالله، وأجيبك على أسئلتك فأقول لك:
1- تقول: "أهلي وأصحابي لا يزالون يظنون بي الخير، ويثنون علي، فهل أقول لهم كلامكم الآن خطأ وأنا تغيرت أم أسكت؟". وأقول لك: اصمت ولا تفضح ستر الله لك، وصحح موقفك مع الله، واضبط أحوالك على منهج الله، ولا تضعف أمام شيطانك، فقد روى أبو هريرة (رصي الله عنه)، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ. [رواه البخاري ومسلم].
2- تقول: "كان من أحلامي أن أتزوج من فتاة صالحة"، وتسأل: "هل أتزوج من امرأة صالحة، لتكتشف فيما بعد أنها تزوجت من رجل سيء؟، أم أتزوج من سيئة مثلي؟". وأقول لك: إياك أن تتزوج السيئة، وتمسك بالزواج من الصالحة، لعل الله يصلحك بصلاحها، فتمسك بذات الدين وأحرص على الزواج بها، ودع عنك وساوس الشيطان، فقد روى أبو داود والنسائي عن أبي هريرة (رصي الله عنه): قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك".
3- تقول: "عندما أدخل مسجدًا في الحي لأصلي يقدمونني للصلاة، لأني أحسن قراءة القرآن الذي أضعته ولم أرع حقه، فهل أمتنع؟". وأقول لك: لا تمتنع عن الصلاة بالناس، فلعل صلاتك بهم تكون سببًا في صلاحك، ولعل الله يردك بها إلى جادة الطريق، لكن أوصيك أن تتوب وتستغفر قبل الصلاة، وإذا وجدت من هو أفضل منك أن تقدمه، وأن تصلي وأنت تائب مقبل.
4- تقول: "هل تحبط الأعمال الصالحة؛ التي قدمتها في الفترة السابقة، من صيام أو قراءة قرآن أو طلب علم؟". وأقول لك: نسأل الله أن يتقبل منك كل ما قدمت من عمل صالح، وأن يجعله في ميزان حسناتك يوم القيامة، وأن يردك إلى الطريق المستقيم ردًا جميلاً، ولا تسمح للشيطان أن يلعب بك، وأن يصرفك عن التوبة، واحترس منه، فإنه "يهون على المسلم أمر المعصية" حتى إذا أوقعه فيها "هول عليه أمر التوبة".
ونصيحتي الأخيرة التي أقدمها لك أن أقول لك:
أنت بادرت وراسلتنا برسالتك تلك وهي تدل على أن قلبك ما يزال حيا، وأن حبك للإيمان ما يزال قائما، فأوصيك بأن تبث هذه الشكوى بين يدي ربك، وأن تناجيه سبحانه بكل آلامك، وأن تقدم بين يدي مناجاتك عملا صالحا واستغفارا..
وأؤكد عليك أن عليك المبادرة بالأعمال الإيجابية وألا تكتفي فقط بالكلام، وليس شرطا أن ترتبط بعمل صالح بعينه، بل لو وجدت قلبك مغلقا تجاه عمل فبادر بعمل آخر، فإن وجدت كسلا تجاه الصلاة فبادر بالصدقة أو الصوم أو كفالة اليتيم أو غيره..
واعلم أن الله غفور رحيم عفو ستير سبحانه.
وختامًا؛ نسأل الله (عز وجل) أن يغفر لنا ولك، وأن يصفح عنا وعنك، وأن يهد قلبك إلى طريق الحق، وأن يريك الحق حقًا ويرزقك اتباعه، وأن يريك الباطل باطلاً ويرزقك اجتنابه، وأن يصرف عنك كيد الشيطان ومكره.. اللهم آمين.. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.