تونس في حضن العلمانية من جديد
5 محرم 1436
تقرير إخباري ـ المسلم

يبدو أن الدول الغربية التي ابتدعت العلمانية , تريد أن تحتفل بالذكرى المئوية لإسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية , وإحلال العلمانية الاستبدادية مكانها في معظم الدول العربية , بإنجاز يحفظ ماء الوجه , ويبعد شبح الإخفاق في تحقيق مراد وهدف العلمانية الأهم عبر قرن كامل من الغزو الاستعماري والفكري الغربي للبلاد الإسلامية , المتمثل في مسح وإلغاء الهوية الإسلامية لشعوب هذه المنطقة , وجعلها بدون هوية أو دين أو حتى ديمقراطية حقيقية .
لقد رسخت الدول الاستعمارية أقدام الحكم الاستبدادي في الدول العربية بعد إضطرارها الجلاء عن تلك البلاد بفعل المقاومة الإسلامية , وراحت تغزو الشعوب بفكرها العلماني سياسيا وثقافيا وفكريا واجتماعيا واقتصاديا , وحاربت التوجه الإسلامي الصحيح في تلك البلاد بكل ما أوتيت من قوة , بينما دعمت الإسلام – المعتدل كما تسميه - الذي يوافق هواها ولا يشكل أي عائق أمام مخططاتها الخبيثة , وذلك خلال أكثر من نصف قرن من الزمان .
وبعد أن أيقنت العلمانية العالمية أنها قد فشلت في تحقيق ما تريد في تلك البلاد , رغم طول الزمن وفداحة الثمن , حيث ما زال قلب الإسلام الصحيح ينبض بالحياة في جسد الأمة , وما زال المسلمون متمسكون بالهوية الإسلامية , بل وبالعودة إلى الحكم الإسلامي لدولهم بعد أن فاحت رائحة الفساد والعفن من الحكم العلماني الاستبدادي لدولهم خلال أكثر من أربعة عقود من الزمان , ولا أدل على ذلك من فوز واكتساح التيار الإسلامي جميع استحقاقات الانتخابات البرلمانية والرئاسية في معظم دول ما سمي "بدول الربيع العربي" , وعلى رأسها "تونس" مهد الثورات العربية وفاتحتها .
أقول ...بعد أن فشلت العلمانية في تحقيق ما تريد في تلك الدول عبر ما يسمى الديمقراطية المزعومة وصناديق الاقتراع , انقلبت على كل شعاراتها البراقة وثوابتها المزعومة , وأعادت صياغة الحكم الاستبدادي العلماني السابق بوجوه جديدة أشد ديكتاتورية وكراهية للتيار الإسلامي , لتضع الأحزاب السياسية الإسلامية في تلك الدول بين خيارين أحلاهما مر :
1- إما دفع فاتورة البقاء في الحكم والتمسك بالحقوق الديمقراطية الفادحة الثمن , وذلك من خلال مواجهة انقلاب لا يكتفي بإزاحة التيار الإسلامي من الحكم , بل يذهب بعيدا في سياسة الإقصاء والمعركة الصفرية ضد هذا التيار , فإذا ما اضطر للدفاع عن وجوده وحقوقه اتهم بممارسة "الإرهاب" وشنت ضده حرب شعواء لا تبقي ولا تذر , وهو ما حصل في بعض دول ما سمي "بالربيع العربي" .
2- وإما التنازل عن الاستحقاقات السياسية التي نالها بصناديق الاقتراع وأصوات الناخبين طواعية , للحفاظ على مؤسسات الدولة وتماسكها , وسلامة أبنائها من الدخول في حرب داخلية لا تحمد عواقبها , وهو ما اختاره حزب النهضة التونسي منذ بداية العام الحالي , حيث تنازل عن رئاسة حكومة "الترويكا" , بعد أن فاز بجدارة بالمركز الأول في الانتخابات التي جرت بعد الثورة التونسية عام 2011م .
وبغض النظر عن نزاهة العملية الانتخابية التي جرت أول أمس في تونس , و أظهرت نتائجها الأولية أمس تقدم حزب "نداء تونس" العلماني برئاسة الباجي قايد السسبسي على حزب النهضة الإسلامي , بفارق 7% تقريبا , حيث حصل حزب "نداء تونس" على 83 مقعدا من مقاعد البرلمان بنسبة 38,24% , بينما حصل حزب النهضة على68 مقعدا بنسبة 31,33% .
فإن النتيحة تبدو متسقة مع أطماع الدول العلمانية الغربية التي تريد أن تحتفل بذكرى مرور مائة عام على دخول العلمانية إلى الدول العربية وإنهاء الخلافة والحكم الإسلامي , بإنجاز شكلي - وإن كان وهميا وغير حقيقي - على الأرض , يتمثل بحرمان التيار الإسلامي من تحقيق حلمه باستعادة أمجاد الخلافة الإسلامية , وإعادة العلمانية إلى سدة الحكم بعد أن أسقطتها الثورات العربية , ولو كان ذلك من خلال الانقلاب على المبادئ والشعارات الغربية , التي ما برحت تمجد الديمقراطية وتتغنى بالحرية المزعومة .
إن عودة تونس إلى حضن العلمانية من جديد يحمل الكثير من الإشارات والرسائل السلبية , ولعل أهم هذه الرسائل تتمثل بإجهاض حلم الشعوب العربية في تحقيق الحكم الإسلامي الذي عبرت عنه من خلال الأصوات التي ذهبت للتيار الإسلامي بشكل عام , في بلد يعتبر مهد الثورات العربية وملهمتها "تونس" .
إلا أن الأمل ما يزال يحدو الكثيرين بأن "تونس" وإن عادت إلى حضن العلمانية من جديد , إلا أن التيار الإسلامي فيها ما زال موجودا وفاعلا , وهو وإن كان معرضا في الغالب لحرب ومواجهة جديدة مع العلمانية , إلا أن مجرد البقاء على الساحة السياسية يبدو إنجازا لا يستهان به .