14 ربيع الأول 1436

السؤال

الحمد لله، مَنَّ الله عز وجل عليَّ بالالتزام منذ سنة وبدأت في حضور مجالس العلم بشكل منتظم، ولكن المشكلة أني كثيراً ما أضيع أوقاتي في أشياء لا قيمة لها، وكذلك أشعر في أوقات أخرى أن القلب قاس جداً بسبب ما أراه في الشوارع من معاص ومنكرات وبسبب استرسالي في التفكير ببعض الذنوب عند حدوث ما يذكر بها، وقد فكرت في السفر للسعودية لأنها (بيئة أنقى) ولعل الله أن يجعل ذلك سبباً في ثبوت قدمي في الالتزام والازدياد في العلم.. فهل تفكيري سليم،، وهل من أفكار أخرى؟ جزاكم الله كل خير.

أجاب عنها:
يحيى البوليني

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
نشكر لك أخانا الكريم ثقتك بإخوانك في موقع المسلم ونسأل الله سبحانه أن يوفقك لما يحبه ويرضاه، وأن يعينك على أداء الطاعات وأن يحببها إلى قلبك وأن يباعد بينك وبين معاصيه كما باعد بين المشرق والمغرب.
أخي الفاضل: لاشك أن الحياة الحقيقية لا تكون إلا في طاعة الله وفي ظل الالتزام بأوامره والانتهاء عن نواهيه، فمن يرد أن يبتعد عن الشقاء والضلالة فليتبع هدي الله سبحانه وذكره، فقال سبحانه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} وحذر سبحانه من الإعراض عن هديه، فهددهم بعقوبتين الأولى في الدنيا والثانية في الآخرة، فعن عقوبة الدنيا قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}، وعن عقوبته في الآخرة قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} فإذا نسي العبد جريمته أو ظن أنه يستطيع التنصل منها يسأل ربه عن سبب ما حل به فيقول: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا}؟، فيجيبه ذو الجلال سبحانه ويقول له: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} ثم يقرر الله سبحانه حكمه الإلهي ويؤكده ويحذر عباده فيقول: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}.
والعبد المؤمن إذا استشعر بمعية الله معه في كل حين، وعاش بالإحسان الذي عرفه نبينا صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام حينما سأله "قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"[1]، فإذا عاش به ناس سعادتي الدنيا والآخرة ونال الحياة الحقيقية التي تدوم بإذن الله {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لَهْو وَلَعِب وأن الدَّار الْآخِرَة لَهِيَ الْحَيَوَان لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
فحسنا فعلت أخي الكريم إذ انتظمت في مجالس العلم، فبالعلم تُرفع الدرجات وتُنال المكرمات وتعلو المقامات، فقال ربنا سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ"[2].
أما مشكلة ضياع الوقت أخي فهذه مشكلة أغلب الناس، فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم: "نعمتانِ مغْبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصِّحَّة والفراغ"[3]، فالنعمة الثانية فهي نعمة الفراغ، وهو الوقت الذي أتاحه الله تعالى للعبد ليعمل فيه قبل أن يعمل الوقت فيه، فيجب أن يذكر المؤمن نفسه بأن كلَّ يومٍ يمرُّ عليه يأخذ يوماً من عمره ويجب عليه أن ينتبه أن كل يوم يمر هو جزء في عمر الإنسان فلا يضيعه، فكل ذاهب يمكن أن يعود إلا عمر الإنسان فإذا ذهب لن يعود، ولهذا يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما"[4].
وقسوة القلب أخي أو ما يمكن تسميتها بالغفلة قد تكون موقفا طبيعيا – لكن لابد من الانتباه له ومعالجته - يأتي بين الحين والحين، فما من مؤمن ويصيبه فتور بعد نشاط، أو كسل بعد عزم، وهكذا كل مؤمن، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك"[5]، ولكن يجب على المؤمن أن يحاول التخلص منه بأسرع وقت، فكما أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم في حديثه بأن نستغل أوقات النشاط وإقبال النفس على الطاعة في الخير وفي المقابل في وقت الفترة لا ننقطع بالكلية عن العمل، فنحافظ فيها على الفرائض ونبتعد عن المحرمات وهو مالا يقبل من المسلم الحيد عنه في فترة كسله أو خموله.
وأما بالنسبة لسفرك لأرض تجد قيها صحبة صالحة فهو أمر محمود ولاشك، فالصحبة الصالحة في أي مكان في الأرض من ديار الإسلام عامل من أهم عوامل الثبات على دين الله ووسيلة مهمة في رفع الهمم في التسابق للطاعات، فإن تيسر لك ذلك فأقدم على بركة الله ونسأل الله لك أن يعينك على الخير، فإن لم يتيسر لك هذا فاصحب أهل العلم والطاعة في بلدك والزمهم وستجدهم في بيوت الله العامرة بإذن الله بكل خير.
ونصيحتي الأخيرة لي ولك ولكل مسلم هي الانشغال وإشغال الأوقات بالطاعات، فالفراغ مدمر للنفس ومحبط للهمة فلا تخرج من عمل إلا لعمل، واشغل لسانك دوما بذكر ربك سبحانه وحن نفسك بالأذكار وإن لم تكن متزوجا فعليك بالبحث عن زوجة مؤمنة تقية تعينك على طاعتك وتعفها وتعف بها نفسك.
حفظك الله أخي الكريم وبارك فيك.
______________________
[1] الحديث بطوله رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، رواه الترمذي (2646).
[3] (رواه البخاري برقم 6412).
[4] (مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا / 29).
[5] رواه أحمد وابن خزيمة.