10 رجب 1436

السؤال

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، عندي 24 عامًا، مغترب، وأعيش في غرفة بمفردي، ولكن لا يوجد لدي أصحاب في الغربة، ومن أعرفه منهم تربطني بهم زمالة في العمل ليس أكثر، ولا أحب أن أتعمق في أي علاقة زمالة هنا، لأني لا أريد أن أشغل أحدًا معي، فهنا في الغربة كل منا مشغول بهمومه.
مشكلتي أني أعاني من نقص عاطفي؛ لأنني غير مرتبط، وحتى على الإنترنت حاولت أن أتحدث لأي فتاة بمنتهى الاحترام، وعندما أحس بأن مشاعري ستتغير فإن عقلي يهمل الموضوع فأنساه على الفور. وقد فكرت أن أرتبط، لكنني للأسف غير مستعد ماديًا، كما أنني أخاف من أشياء كثيرة.
أنا كلي مشاكل، وربما تكون مشاكلي تافهة وليس لها معنى، غير أن أهم مشكلة أعاني منها أنني من كثرة المشاكل والحيرة التي أعيشها أصبحت غير مرتب في كلامي، كما أنني مهمل وأعاني من اللامبالاة، على الرغم من أنها ليست من طبعي.
حاولت أن أصلي كثيرًا، لكنني للأسف لا أشعر أنني خاشع في الصلاة، كما أنني ولله الحمد أدَع كل همومي على الله عز وجل، غير أنني أشعر بالاختناق من الوحدة التي أعيشها، حتى عندما أكلم أهلي عبر شبكة الإنترنت، فلا أعرف ماذا أقول لهم، أو فيم أتكلم معهم، لدرجة أن معظم المكالمة لا تتعدى السؤال عن أحوالي، وردي ينحصر في كلمة واحدة هي الحمد لله، وباقي المكالمة أكون صامتًا، ورغم أنني أكون راغبًا في الحديث معهم كل ساعة لكنني لا أعرف ماذا أقول لهم؟!.
أنا ولله الحمد هادئ الطباع وطيب، وأعصابي متماسكة بدرجة كبيرة، والحمد لله فإن الناس من حولي يحبونني... أعتذر لكم عن كثرة الكلام، ولدي كلام كثير أود أن أحدثكم عنه، لكنني أنتظر ردكم على هذه الاستشارة أولاً.. وأعتقد أنه واضحٌ من طريقة كلامي أني في حيرة شديدة.. أرجو أن تقرؤوا استشارتي وتفهموها جيدًا.

أجاب عنها:
همام عبدالمعبود

الجواب

أخانا الحبيب:
السلام عليكَ ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكَ، وشكر اللهُ لكَ ثقتكَ بإخوانِكَ في موقع (المسلم)، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، آمين.. ثم أما بعد:
طالعت استشارتك باهتمام شديد، ويمكنني أن ألخص مشكلتك، من خلال رصد واقتطاف بعض العبارات التي وردت على لسانك، وهي: "عندي 24 سنة"، "مغترب"، "عايش فى غرفة لوحدي"، "مفيش أصحاب لي في الغربة"، "أعاني من نقص عاطفي"، "مش مرتبط"، "فكرت أرتبط بس مش جاهز ماديًا"، "كلي مشاكل"، "غير مرتب في كلامي"، "مهمل وعندى لا مبالاة"، "حاولت أصلي بس مش بحس إنى خاشع"، "سايب كل همومي على ربنا"، "اتخنقت من وحدتي"، "طبعي هادي جدًا وطيب"، "أعصابي متماسكة"، "الناس بتحبني".
وكم كنت أود أن توضح لنا في رسالتك: وضعك التعليمي (المؤهل الدراسي الذي حصلت عليه)، وظروفك العائلية (هل لك إخوة وأخوات– ترتيبك بينهم – علاقتك بهم)، الهدف من سفرك للخارج، المدة التي قضيتها خارج مصر، طبيعة عملك الآن، هل تشعر بجدوى من السفر والغربة (هل حققت شيئًا مما قدمت من أجله؟)،.... إلخ. وذلك حتى يمكننا أن نتفهم الدوافع والظروف المحيطة بك، ليسهل تفسير وتحليل مشكلتك ومن ثم الوصول إلى حلول أكثر عقلانية لها.
لكن؛ وفي حدود المعلومات المتاحة، فإنني أوضح لك الآتي:
1) ست وحدك الذي تشكو من الغربة والسفر خارج الديار، فهناك الملايين من الشباب المصريين، بل والعرب، الذين يشاركونك هذا الهم، بل إن هناك الملايين الذين يرغبون في ويسعون إلى السفر للخارج، للبحث عن فرصة للعمل، أو الدراسة، أو حتى لمجرد الفرار من الفراغ والبطالة وحالة اللامبالاة وفقدان الأمل التي يعاني منها الكثير من الشباب الذين ظلوا لسنوات يحلمون بالاستقرار والنجاح والحياة الكريمة.
2) أما عن "الفراغ أو النقص العاطفي"، فهي مشكلة قديمة جديدة، تصيب الكثير من الشباب في مقتبل العمر، ولا حل لها سوى بالإقامة مع الأهل والأسرة، أو الأصدقاء والأصحاب، أوالصالحين والمؤمنين، والأنس بهم من وحشة الوحدة، حتى يأذن الله لك بشريكة الحياة ذات الدين التي تصحبك في هذه الدنيا، في رحلة البحث عن السعادة وتكوين أسرة صالحة، وتلك سنة الله في خلقه.
3) أنصحك بالخروج من سجن الوحدة الذي تضربه حول نفسك، خاصة في الغربة الموحشة، فتجارب الشباب الذين سافروا واغتربوا توصي بذلك، ويمكنك في سبيل تحقيق هذا الهدف أن تنتقي أحد أو بعض الشباب الأتقياء، الذين يظن فيهم الخير، وتعتقد فيهم الصلاح، وتشاركهم العيش والسكن، فإن الوحدة قرينة الشيطان، فعن عمر (رضي الله عنه)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة". (رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع (2546)).
4) لا أدري كم المدة التي قضيتها في الغربة، وما إذا كان السفر والاغتراب للعمل مجدي بالنسبة لك من الناحية المادية أم لا، ولا ما هي ظروفك الاجتماعية والأسرية، وما إذا كنت تنفق على أهلك وترسل لهم من راتبك الشهري أم أنك تدخر ما تعمل به لنفسك، لكنني في كل الأحوال أقول لك: إن لم يكن السفر مجديًا ماديًا على الأقل، وما لم تشعر بأن هناك هدفًا من سفرك وغربتك اقتربت من تحقيقه، فلا داعي لهذه الغربة التي تبدد العمر ولا تعود بفائدة، وعد إلى بلدك وأهلك، وأنقذ نفسك من الضياع والوحدة القاتلة، وعش بين أهلك وأصحابك وإخوانك وأصدقائك وجيرانك، لتأنس بهم من وحشة الغربة، وابحث عن أي فرصة عمل مهما كان عائدها المادي، فذلك أصون لنفسك.
5) أما إذا كان سفرك مثمرًا من الناحية المادية، وإذا كان هدفك من السفر والغربة على وشك التحقق، وإذا كنت تنفق على اهلك، أو تدخر من راتبك لبناء مستقبلك، فاصبر وتحمل المشاق واركب الصعاب، في سبيل هدفك الذي وضعته يوم أن قررت السفر والغربة، فما أجمل الصبر وأنت تشاهد هدفك يتحقق أو يكاد، وما أحلى الدواء المر وأنت تراه السبيل الوحيد للشفاء من الأمراض والعلل التي تشكو منها، وتذكر أن الملايين من الشاب سافروا واغتربوا وصبروا وتحملوا حتى حققوا أهدافهم.
6) أنصحك بأن تضع نصب عينيك مثالاً للنجاح، من أقاربك أو جيرانك أو معارفك ممن سافر واغترب وعاد ناجحًا وحقق هدفه حتى صار مضرب المثل في الكفاح والنجاح، فلا شك أنه سيدفعك للنجاح. كما أنصحك بأن تضع نصب عينيك مثالاً لأحد الفاشلين، من أقاربك أو جيرانك أو معارفك ممن سافر واغترب وعاد بخفي حنين، دون أن يحقق شيئًا من آماله وطموحاته، بل وبعدما ضيع من عمره سنوات، فلا شك أن هذا المثال سيدفعك للهروب من الفشل.
7) أما عن المشاكل الأخرى التي تشكو منها، والتي بدت من قولك: "أنا غير مرتب في كلامي"، و"مهمل"، و"عندى لا مبالاة"، .... إلخ، فهي مشاكل عرضية لا مرضية، بمعنى أنها مشاكل ناتجة عن المشكلة الأم وهي إحساسك بالغربة والوحدة، وإن شاء الله فإن مصيرها جميعًا إلى زوال، فمبجرد كسرك لسور الوحدة الذي تضربه حول نفسك، وانتقالك للعيش مع أصحابك وأصدقائك من الصالحين والأتقياء الذين ستختارهم من الدوائر القريبة منك، ستحل جميع أو غالب مشاكلك الفرعية الأخرى، إن شاء الله.
8) أما عن قولك: "حاولت أصلي بس مش بحس إنى خاشع"، فإن عدم الأحساس بالخشوع في الصلاة ليست مبررًا لتركها وهجرها، فلا شك أن الصلاة صلة بين العبد وربه، وأن العبد الذي لا يصلي يقطع بنفسه حبل الصلة والاتصال بينه وبين خالقه، وهي سبب لتكفير السيئات، ورفع الدرجات، وزيادة الحسنات، والقرب من رب الأرض والسماوات، وهي المدد الروحي الذي لا ينقطع، والزاد المعنوي الذي لا ينضب، وهي أعظم غذاء وسقي لشجرة الإيمان، وفيها علاج لأدواء النفس الكثيرة؛ كالبخل والشح والحسد والهلع, والجزع، وغيرها.
وختامًا؛ نسأل الله (عز وجل) أن يرضى عنك، ويهدئ روعك، ويربط على قلبك، وأن يصلح لك نفسك، وأن يصرف عنك كيد الشيطان ومكره وخبثه.. اللهم آمين.. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.