الغفلة وإلف المنكر
19 ذو القعدة 1435
عبد الله بن فهد الزهراني

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد :
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ...مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [سورة اﻷنبياء
ها هو ذا الحساب يقترب يوما بعد يوم ، كلما ذهب يومك ذهب بعضك ، الناس في غفلة عجيبة عن الهدف الذي خُلقوا له

 

فالأيام تمضي ... والأعمار تفنى ... والصحائف تطوى والسعيد من خُتم له برضوان الله وطاعته .
الغفلة داء عضال .. متى حلّت في القلب أهلكته .. وفي الجسد أنهكته .
يغفل الناس عن اليوم الذي سيرحلون فيه من هذه الدنيا .. ويغفلون عما سيلاقونه في القبر .. ويغفلون عما سيلاقونه من أهوال يوم القيامة .. ويغفلون عن أمور كثيرة ... قد غطّى حبُّ الدنيا معرفتها وإدراكها فطمس على قلوبهم فهم لا يشعرون .
أخي يقِظ القلب : لتعلم أن من علامة حُب الله للعبد " يقظة قلبه " ، ولذلك كان السلف يُذكِّرون به .
قال ابن سيرين رحمه الله : إذا أراد الله لعبد خيراً , جعل له واعظا من قلبه يأمره وينهاه .

 

ويقول ابن القيم رحمه الله : أصول المعاصي كلها ثلاثة :
تعلق القلب بغير الله _ وطاعة القوة الغضبية _ والقوة الشهوانية وهي الشرك والظلم والفواحش
فغاية التعلق بغير الله الشرك وأن يُدعى مع الله إله ٌآخر ، وغاية القوة الغضبية القتل , وغاية القوة الشهوانية الزنا
ولهذا جمع الله سبحانه بين هذه الكبائر فقال
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) [سورة الفرقان : 68]

فهذه الأصول الواضحة للمعاصي قد تخفى على كثير من الناس , بل ويموت إحساس كثير منهم عن هذه الأصول الواضحة فلا يشعر بشيء البتة , وتلك القلوب قد غطاّها الران فما عادت تحس بشيء.

 

والسبب في ذلك هو " إلف المنكر ": أن يكون المنكر عنده مألوفاً لكثرة اقترافه
وهذا ما كان يخيف أبا الحسن الزيات فكان يقول :"والله ما أبالي بكثرة المنكرات والبدع , وإنما أخاف من تأنّس القلب بها , لأن الأشياء إذا توالت وكثُرت مباشرتها , أنِست بها النفوس وإذا أنست بها النفوس قلّ أن تتأثر بها "
والأخطر من ذلك أن يألف الإنسان العقوبة -والعياذ بالله- حتى يصل إلى درجة عدم الإحساس بأن الحال الذي هو فيه عقوبة لذنب قد اقترفه .
ومن أمثلته أنك لا تجد بعضهم يوفق لصلاة الجماعة زمنا طويلاً , حتى يألف ذلك .. فلا يشعر بوخز الضمير.. وألم الذنب , ومن وصل لهذه المرحلة فهو على خطر عظيم .

 

يقول ابن القيم رحمه الله ( الذنوب جراحات , ورب جرحٍ وقع في مقتل )

فاحذر !! أن يحول الله بينك وبين قلبك فيحرمك التوفيق ويحرمك التوبة والإقبال عليه ...
(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة اﻷنعام : 110]
رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها

 

أخي المبارك :
روى الإمام الترمذي في سننه عن بن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
( إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه , وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه , فقال به هكذا فطار )
ولنتأمل سير الأولين وحياتهم في صفة الإحساس بالذنب , والخوف من المعصية وعدم قبول حسناتهم..
فقد كانوا أصحاب قلوب متيقظة لا يعرف الران إليها سبيلا ..
ولم يفسد شيء من الدنيا شفافية أرواحهم وحساسية قلوبهم المرهفة ..
حتى يصل بأحدهم أنه يتذكر ذنباً قبل 40 سنة , لم يزل يحس بأثره ولا يستطيع أحدا أن يتذكر ذنبا مضت عليه هذه السنين إلا عبدٌ قد قلّت ذنوبه فاستطاع أن يحصيها .وهكذا .. كانوا يحسون بالذنب , ويربطونه بالبلاء الذي يصيبهم .

وقد ورد عن بعض السلف أن رجلا شتمه , فوضع خده على الأرض وقال : ( اللهم اغفر لي ذنبي الذي سلطت به هذا عليّ ) .

بل يصل الأمر أنهم يربطون البلاء الذي يصيبهم بالذنب ويجعلونه سببا لعدم توفيقهم للطاعة...

حتى دخل أحد السلف على آخر في بيته فوجده يبكي ؟ فقال له : ما يبكيك ؟ قال : إن بابي لمُغلق , وإن ستري لمُسْبَل ومُنعت جزئي أن أقرأه البارحة , وما هو إلا من ذنب أذنبته .

 

الله أكبر ... !! هذا شأنهم حُق لهم أن يوصفوا بأنهم أعبد الناس .
وسُئل سعيد بن جبير من أعبد الناس ؟ فقال : رجل اجترح من الذنوب , فكلما ذكر ذنبه احتقر عمله...

(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [سورة اﻷنعام : 44

نسأل الله العظيم الجليل أن يهب لنا قلبا خاشعاً ولسانا ذاكرا وعينا دامعة ودعوة مستجابة
وأن يحيي قلوبنا بالإيمان وأن يبعدنا عن مزالق الهوى والردى والشيطان .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

 

المصدر/ نصر