ماذا وراء تقسيم السّنّة إلى تشريعية وغير تشريعية
19 رمضان 1435
د. عدنان أمامة

من المعلوم بالضرورة عند عامة المسلمين فضلاً عن خاصتهم، أنّ الشريعة الإسلامية ليست محصورة في تنظيم علاقة الإنسان بربه في باب العبادات, بل هي شاملة لكل شأن من شؤون الحياة الخاصة والعامة, وما من تصرف من تصرفات العباد ولا حادثة تقع في أي عصر وأي مصر وأي حال إلا ولله فيها حكم، قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (النحل: 89)، وقال سبحانه: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) (العنكبوت: 56)، وما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى علَّم أمته كل شيء حتى آداب التخلي والجماع والنوم والطعام والشراب واللباس وما إلى ذلك, وما ترك خيراً إلا دل أمته عليه، ولا ترك شراً إلا حذَّر أمته منه.

 

فالإسلام دين كامل شامل انتظم شؤون الدنيا والآخرة, وما من ميدان من ميادين الحياة السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها إلا وللإسلام فيها أحكام وتشريعات, ونظام شامل ورؤية متكاملة, قال تعالى: (ما فرَّطنا في الكتاب من شيء) الأنعام: 38، وقد اتفقت كلمة الأصوليين على أن المصدر الأساسي للشريعة الإسلامية هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم, وأن السنة شقيقة القرآن ووحي من الرحمن, لقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى `إن هو إلا وحي يوحى) (النجم: 3ـ4)، وأن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من طاعة الله لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر: 7، وقوله: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (النساء: 80).

 

يقول الإمام الشافعي رحمه الله: لم أسمع أحداً نسبه الناس, أو نسب نفسه إلى علم, يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, والتسليم لحكمه (1).
وقد دلَّت أحوال الصحابة وأقوالهم وأفعالهم والأخبار المتواترة المنقولة عنهم على أنهم لم يكونوا يفرقون بين أقواله وأفعاله في وجوب المتابعة والتأسي, بل أجمعوا على حجية القسمين، وكانوا يتعاملون مع كل ما يصدر من نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم على أنه للاتباع والتأسي عملاً بقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) (الأحزاب: 38).
ولم يكونوا يفرقون بين ما يصدر منه في باب العبادات, وما يصدر منه في باب المعاملات, ولا بين ما يفعله بوصفه رسولاً, وما يفعله بوصفه إماماً, وقاضياً, وزوجاً, ومربياً,بل كانوا يتابعونه ويقتدون به اقتداءً مطلقاً, وفي كل الأحوال, ودون أي استشكال, أو استفصال, وكمثال على ذلك: ما أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً من ذهب, فاتخذ الناس خواتيم من ذهب, ثم نبذه وقال: « إني لا ألبسه أبداً » فنبذ الناس خواتيمهم (2).
وكان يوماً يصلي بأصحابه فخلع نعليه فوضعهما عن يساره, فلما رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم، فلما قضى صلاته قال: « ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ » قالوا: رأيناك ألقيت نعليك, قال: « إن جبريل أخبرني أن فيهما قذراً » (3).

 

البحث المنهجي 39
ولم يقتصر حبهم لنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم ومتابعتهم له على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، بل تأسوا به في أخلاقه وآدابه ونوافله وأكله وشربه ولبسه وحسن معاشرته لزوجاته وغير ذلك من آدابه الكاملة وأخلاقه الطاهرة .
وهكذا غدت حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكل صورها ومختلف أشكالها وأحوالها، منارة يهتدي بنورها المسلمون، ويقتبسون من سناها في كل شأن من شؤون حياتهم الدينية والدنيوية، وواحةً يفيئون إليها عند المستجدات والمدلهمات .
وباتت أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله وتصرفاته محط أنظار العلماء، ومحور اهتمامهم، والمرجع الذي يحتكمون إليه فيما يجري بينهم من خلافات, ومصنفاتهم في مختلف العلوم الإسلامية تؤكد أنهم لم يكونوا يقسمون سنته صلى الله عليه وآله وسلم إلى سنة تشريعية تتناول أمور الغيب والثوابت الدينية وتفصيلات العبادات، وسنة غير تشريعية صدرت عن اجتهاده صلى الله عليه وآله وسلم في فروع المتغيرات الدنيوية, وهذه كتب الفقه قديماً وحديثاً دأبت على بيان الحكم الشرعي لكل فعل من أفعال المكلفين في كل شأن من شؤون الحياة، مستندة في ذلك على ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم, وها هي كتب الحديث والشمائل والسيرة تتبعت حياة النبي صلى الله عليه وسلم بمختلف صورها وكافة أشكالها وأدق تفصيلاتها، وشكلت منها كتاباً مفتوحاً لكل مسلم يرى من خلال نبيه القدوة صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه يعيش معه, وأضحى كل ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قول أو عمل أو تقرير قبل مفارقته لهذه الدُّنيَا، ولم يأتِ ما ينسخه شرعاً وديناً يتعبد الله به.

هذا هو المنهج الذي سار عليه المسلمون سلفاً وخلفاً بشأن أفعاله وتصرفاته صلى الله عليه وآله وسلم، ولم نرَ العلماء يخرجون شيئاً منها عن دائرة التأسي والاقتداء، اللهم إلا الأفعال التي ثبت بالدليل أنها من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم، كالجمع بين أكثر من أربع نسوة, والوصال في الصوم، فهذه لا يصح لغيره أن يتابعه فيها.
قال الشوكاني: والحق أنه لا يقتدى به صلى الله عليه وسلم فيما صرح لنا بأنه خاص كائناً ما كان إلا بشرعٍ يخصنا (4).

 

البحث المنهجي 40
وكذلك الأفعال التي كان يفعلها بمقتضى الجبلة والطبع، كالأكل والشرب والنوم, والأفعال التي كان يفعلها بمقتضى عادة العرب وأعرافهم السائدة، كلبس العمامة والجبة والرداء والإزار وإطالة الشعر والاكتحال ولبس الخاتم والركوب على الحمار والبعير ونحو ذَلِكَ، فهذه الأفعال قسمها الأصوليون إلى قسمين:
1ــ قسم جاء النص ( الخارج عن الفعل ) يأمر بِهَا، كالأكل باليمين، والشرب ثلاثاً، والنوم على الشق الأيمن، ولبس البياض، وصبغ الشيب بغير السواد واستعمال الطيب، وإطلاق اللحية وحف الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقص الأظافر، أو ينهى عنه كجر الإزار، والأكل بالشمال والنفخ في الإناء، فهذه تجري عليها الأحكام التكليفية من الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة كغيرها من سائر الأحكام.

2ــ وقسم لم يأتِ نص مستقل يطلب فعلها أو تركها, فهي باقية على الأصل من حيث الإباحة للجميع. وهذا القسم محل خلاف بين العلماء في مشروعية متابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه على جهة الندب على قولين:
أ ــ أن التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا النوع مندوب, وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يذهب هذا المذهب, وقد سئل عن سبب لبسه للنعال السبتية وتصفيره لشعره فقال: أما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس النعال الَّتِي ليس فِيْهَا شعر ويتوضأ فِيْهَا، فأنا أحبُّ أن ألبسَها، وأما الصفرة فإنِّي رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بهَا (5).

ب ــ القول الثاني: أنه لا يشرع التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما فعله بحكم الجبلة والطبع أو العادة والعرف دون دليل مستقل يطلب فعلها أو تركها, وهذا مذهب جمهور الصحابة ومنهم الفاروق وعائشة رضوان الله عليهم جميعاً, وهو المذهب الراجح لأن
النبيصلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد بأفعاله هذه القربة إلى الله، فلا نخالف قصده ونتقرب بها.
وأضاف العلماء إلى ما لا يشرع فيه التأسي من أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم، مراعاة الزمان والمكان اللذين وقع فيهما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحكم الاتفاق والمصادفة دون أن يقصدهما لذاتهما.

 

البحث المنهجي 41
يقول الآمدي في إحكامه: (فلو وقع فعله في مكان أو زمان مخصوص فلا مدخل له في المتابعة والتأسي, وسواء تكرر أولم يتكرر, إلا أن يدل على اختصاص العبادة به, كاختصاص الحج بعرفات, واختصاص الصلوات بأوقاتها, وصوم رمضان) (6).
هذه الأفعال المتقدم ذكرها هي فقط ما توقف عندها العلماء، وقالوا: إنه لا يلزمنا الاقتداء بِهَا، وفصلوا بشأنها التفصيل المتقدم. ولم يرد عن أحد من علماء أصول الفقه أن هذه الأفعال من السنة غير التشريعية, بل كلهم عدَّها من السنة التشريعية, لأنها تندرج في قسم المباح, والإباحة أحد أقسام الحكم التكليفي.

 

إلا أن بعض الكتَّاب في العصور المتأخرة، لم يرتضوا هذا المنهج الذي استقر عليه إجماع المسلمين عبر القرون المتعاقبة, ووجدوا في كلام الأصوليين بشأن أفعال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجبلية والعادية ضالتهم للتحرر من أحكام الدين في شتى مجالات الحياة, وانطلقوا منها للقول إن السنة قسمان: سنة تشريعية وسنة غير تشريعية، ولم يكتفوا بإخراج الأفعال الجبلية والعادية التي لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينهَ عنها من دائرة السنة التشريعية، بل ضموا إليها كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غير مجالي العقيدة والعبادة من شؤون المعاملات، وقضايا الحياة، وعدوا الأحاديث في هذا الشأن من باب تدبير الأمور التي تحكمها الظروف والبيئات.
ورغم أن جمهور هؤلاء الكتَّاب اتفقوا على هذا التقسيم، إلا أنهم لم يقدموا ضوابط محددة تمكننا من معرفة ما هو تشريعي وما هو غير تشريعي, وتباينت لأجل ذلك آراؤهم فيما يعد من التشريع وما لا يعد منه, فاشتط بعضهم في ذلك وتوسط آخرون, فيما بدا على كثير منهم مجرد تأثرٍ بهذا التيار.

 

فبعضهم يقسّم الأحاديث النبوية إلى قسمين:
1ــ أحاديث خاصة بالأمور الدينية.
2ــ وأحاديث خاصة بالأمور الدنيوية.
فالأمور الدينية مثل: العقيدة عن الله سبحانه وصفاته, وشعائر العبادات, أما الأمور الدنيوية: فهي تشمل المسائل السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، فالأحاديث في دائرة أمور الدين هي الملزمة وعلى المسلمين أن يتمسكوا بِهَا.

 

البحث المنهجي 42
أما الأحاديث في أمور الدنيا: فهي غير داخلة في مهمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً, بل كل ما جاء في هذا المجال فهو خاص بظروف وحالة العرب في زمان النبوة, وهي ليست ملزمة للمسلمين, وذلك لأن أمور الدين ثابتة, أما أمور الدنيا فمتغيرة . واستدل على هذا التقسيم بحديث تأبير النخل الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: « أنتم أعلم بأمور دنياكم » (7).
فالسنة التشريعية برأي هَذَا الفريق منحصرة فقط في جانبي العقائد والعبادات أما ما عداهما من سائر شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية وغيرها، فلا يلزم المسلمين الأخذ بها لأنها من السنة غير التشريعية.
وبعضهم يرى أن السنة غير التشريعية تشمل ما فعله صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل الحاجة البشرية والعادات والتجارب, والإصلاح بين الناس وسياسة الحروب وفي هذا يقول: السنة تشريع وغير تشريع، وينبغي أن يلاحظ أنّ كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودُوِّنَ في كتب الحديث من أقواله وأفعاله وتقريراته على أقسام:
أحدهما: ما سبيله سبيل الحاجة البشرية: كالأكل والشرب والنوم والمشي والتزاور والمصالحة بين شخصين بالطرق العرفية والشفاعة والمساومة في البيع والشراء.
ثانيهما: ما سبيله سبيل التجارب والعادة الشخصية أو الاجتماعية كالذي ورد في شؤون الزراعة والطب وطول اللباس وقصره.
ثالثهما: ما سبيله التدبير الإنساني أخذاً من الظروف الخاصة, كتوزيع الجيوش على المواقع الحربية, وتنظيم الصفوف في الموقعة الواحدة, والكمون والكر والفر, واختيار أماكن النزول, وما إلى ذلك مما يعتمد على وحي الظروف والدربة الخاصة.
وكل ما نقل من هذه الأنواع الثلاثة ليس شرعاً يتعلق به طلب الفعل أو الترك وإنما هو من الشؤون البشرية التي ليس عمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيها تشريعاً ولا مصدر شرعي (8).

 

البحث المنهجي 43
ثم يقول: وقد كثر ذلك أي ما صدر منه لا على وجه التشريع، بل صفة البشرية أو بصفة العادة والتجارب. وضرب لذلك أمثلة بأحاديث: « من أحيا أرضاً ميتة فهي له »(9)، « من قتل قتيلاً فله سلبه » (10), « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف »(11).
ويتوسع فريق آخر في قضية السنة التشريعية والسنة غير التشريعية, ويحصر السنة التشريعية بأمور الغيب, وما لا يستقل العقل بإدراك علته, وبالثوابت الدنيوية, ويرى أن هذه أحكام دائمة لا يجوز معها اجتهاد التغيير, وهي شاملة لكل تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة, وللفتاوى النبوية التي هي بيان للرسالة والوحي, خلاف الاجتهادات النبوية في فروع المتغيرات الدنيوية.
أما السنة غير التشريعية فهي المتعلقة باجتهادات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في فروع المتغيرات الدنيوية, سواء في السياسة أو الحرب أو المال وكل ما يتعلق بإمامته للدولة الإسلامية, أو بقضائه في المنازعات, الذي هو اجتهاد مؤسس على حجج أطراف, وليس وحياً معصوماً .
ويرى أن الاجتهاد في هذه الميادين لا إلزام فيه وبه، إلا إذا ارتأت الدولة الإسلامية أن فيه تحقيقاً لمصلحتها، أو ارتأى القاضي توافق المصلحة الحالية مع المصلحة التي توخاها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في اجتهاده (12).
ويتتابع المتأثرون بهذا التيار على ترداد هذا الكلام, و يحكمون بخطأ علماء الأصول في تعريفهم للسنة, يقول أحدهم: ليس صحيحاً ما يروجه البعض من أن كل ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قول أو فعل أو إقرار يعد سنة واجبة الاتباع (13).
ويقول آخر: والوحي إليه صلى الله عليه وآله وسلمهو جميع القرآن وبعض ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قول أو فعل أو تقرير, وليس كل ما صدر عنه من هذه الأقوال الثلاثة وحياً يوحى (14).
لا أدري حقيقةً هل غاب عن بال هذا الكاتب قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى `إنْ هو إلا وحي يوحى) (النجم: 3ـ4), وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما حين توقف عن كتابة كل شيء يسمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم, لأن قريشاً نهته عن ذلك, بحجة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا « اكتب, فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق »(15).

 

البحث المنهجي 44
ويضيف هذا الكاتب على كلامه السابق قوله: إن كثيراً من أقواله صدرت عنه بحكم تلك البشرية دون أن يكون المقصود منها التشريع وتقرير الأحكام الملزمة للناس من بعده (16).
ويوافق بعض المشهورين أصحاب هذا الاتجاه, ويرى ضرورة إخراج التصرفات السياسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من دائرة السنة التشريعية(17), ويدعو آخرون إلى إخراج الأحاديث الطبيعية من دائرة السنة التشريعية, فيقول قائلهم: أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطبيعية ليست جزءاً من الوحي الإلهي وإنما هي جزء من خبرات البيئة وتجاربها التي تتناسب مع بيئة معينة في حرارتها ومناخهاوظروفها كالبيئة الصحراوية العربية وليست محمولة على العموم لكل الناس (18).
ويقول آخر من أصحاب هذا الاتجاه: ثمة أمور في السنة النبوية نراها مستمدة من التجربة ولا تحمل معنى القطع العلمي, فجانب القواعد الصحية في الطب الوقائي, مثل التحذير من العدوى والتخمة وقضاء الحاجة في الطريق أو مجرى الماء نجدها وصفات علاجية هي من معارف البيئة العربية فحسب (19).

 

البحث المنهجي 45
والمتتبع لكلام هؤلاء يرى بوضوح دعوة إلى عزل الدين عن الحياة وحصره في جانب العقيدة والشعائر التعبديةوإفساح المجال أمام العلمانية لتتمكن في المجتمع الإسلامي.
والحق أن كل ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قول أو فعل أو تقرير هو تشريع عام للأمة لقوله تعالى: (إن هو إلا وحي يوحى) (النجم: 4)، ولا يخرج شيء عن هذا الأصل إلا ما نص فيه الدليل على أنه من خصوصياته صلى الله عليه وآله وسلم، أو كان اجتهاداً صدر منه صلى الله عليه وآله وسلم ولم يُقَرّ عليه، وتقسيم السنة إلى سنة تشريعية وغير تشريعية من البدع المحدثة التي لم يعرفها سلف الأمة (20), بل هي من نسج خيال من ينعتون أنفسهم بالعقلانيين والمستنيرين, ولم يورد هؤلاء لدعواهم أية حجة معتبرة باستثناء قصة تأبير النخل التي أخرجها مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بقوم يلقحون النخل فقال: « لو لم تفعلوا لصلح » فخرجت شيصاً (21), فمر بهم فقال: « ما لنخلكم؟ », قالوا: قلت كذا وكذا, قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم » (22).

 

وفي رواية أخرى قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « ما أظن يغني ذلك شيئاً ». فتركوه, فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال: « إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه, فإني إنما ظننت ظناً, فلا تؤاخذوني بالظن, ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل » (23). فالواضح من خلال هذه الرواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم ما قال, على سبيل الظن والاجتهاد، وليس على سبيل الجزم وخبر الوحي, ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلمكان يجتهد أحياناً قبل أن ينزل عليه الوحي, ثم ينزل جبريل عليه السلام ليقره على اجتهاده أو ينبهه على وجه الخطأ فيه .
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: « أنتم أعلم بأمور دنياكم », فليس فيه دليل على الفصل بين شؤون الدين والدنيا, وحجية الأولى دون الثانية, لأن الدين ــ حكماً ــ يشمل كل شيء, إنما المراد من الحديث أن مهمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأساسية متجهة إلى أمور الدين وتعليم الناس إسلام الوجه لله, أما أمور الصناعة والفلاحة وخياطة الملابس وصنع السيوف وطبخ الأطعمة ونصب الخيام وتلقيح النخل وما ماثلها من معايش الدنيا, فهذه هي التي ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: « أنتم أعلم بأمور دنياكم » (24), لكن ما أمر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو نهى عنه فهو واجب الاتباع سواء كان ذلك في شؤون الدين أو الدنيا.

 

البحث المنهجي 46

وأما إخراجهم للأحاديث الطبية من السنة التشريعية بحجة أن ذلك كان مما يتناسب مع البيئة العربية الصحراوية, فهو مردود شرعاً وواقعاً، أما شرعاً فلأنّ الأحاديث الطبية هي من ضمن سنته التي أمرنا بالتعبد بها, قال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه
وما نهاكم عنه فانتهوا
(الحشر: 7), ولم يفرّق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الأحاديث الطبية وغيرها, بل هناك جملة من الأحاديث الطبية جاءت بصيغة النهي المقتضي للتحريم كنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرب من ثلمة الإناء (25)، وعن النفخ فيه(26), وعن الجلوس بين الظل والضح (27), وغيرها. ولم يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين والأئِمة المجتهدين والفقهاء أنه ردَّ سنة من السنن بحجة أنها خاصة بأمور الدنيا مع كثرة اختلافهم وردِّ بعضهم على بعض عند تعارض الأدلة.
وأما واقعاً قد ثبت يقيناً صدق هذه الأحاديث وصحة ما تضمنته واهتم الطب الحديث بها اهتماماً بالغاً, وأقيم من أجل دراستها والكشف عن أسرارها ومنافعها العديد من المؤتمرات والندوات, تحت اسم الإعجاز الطبي في القرآن والسنة, وشهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء .
وقد استند أصحاب هذا الاتجاه في إخراجهم لتصرفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مجالي الإمامة والقضاء من عموم السنة التشريعية إلى نقل عن الإمام القرافي وفهموه على غير وجهه, وفسروه بما يوافق هواهم (28). والحق أن القرافي لم يقصد تقسيم تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى تصرفات بوصفه رسولاً, يلزمالمسلمونبها, وأخرى بوصفه قاضياً وبوصفه إماماً لا يلزم المسلمون بها .
وإنما قصد بذلك التقسيم، التفرقة بين الأحكام المختصة بالسلطة التنفيذية والتي لا يجوز للأفراد العاديين مباشرتها، والأحكام التي تخص السلطة القضائية والتي لا يجوز لعامة الأفراد ممارستها أيضاً, إلا بعد حكم قضائي وإذن, وبين الأمور التي ترك للناس الحرية في التصرف فيها دون حاجة إلى إذن من السلطات, ولم يقصد القرافي أبداً إخراج تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قسمي القضاء والإمامة من السنة التشريعية, بل كل تصرفاته صلى الله عليه وآله وسلم شرع لازم لمن بعده من إمام وقاضٍ, ومسلم عادي لا يحمل مسؤولية (29).
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المعظمين لنبيه الموقرين لسنته والسائرين على نهجه ونهج صحابته الكرام والتابعين لهم بإحسان وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشافعي، جماع العلم (11ـ12).
(2) البخاري (3898).
(3) إرواء الغليل (284).
(4) إرشاد الفحول (3 و35).
(5) البخاري (2035).
(6) الإحكام في أصول الأحكام (158).
(7) مسلم كتاب الفضائل, باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش (4358).
(8) سعيد بسطامي، مفهوم تجديد الدين (126).
(9) أبو داود كتاب الخراج والإمارة والفيء, باب في إحياء الموات (2176)، وأحمد ( 14109). وهو حديث صحيح,
كما في صحيح الجامع الصغير (5975).
(10) البخاري كتاب فرض الخمس, باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلاً فله سلبه (2909),
ومسلم كتاب الجهاد والسير, باب استحقاق القاتل سلب القتيل (3295), والترمذي كتاب السير عن رسول الله r,
باب ما جاء فيمن قتل قتيلاً فله سلبه (1487).
(11) البخاري كتاب النفقات, باب إذا لم ينفق الرجل (4945).
(12) محمد عمارة, معالم المنهج الإسلامي (115 ـ 116).
(13) فهمي هويدي,التدين المنقوص (107).
(14) العربي: العدد (222), أحمد كمال أبو المجد (19 ـ 20).
(15) أبو داود كتاب العلم, باب في كتابة العلم (3161), وهو حديث صحيح كما في صحيح الجامع الصغير (1196).
(16) العربي: العدد (225), أحمد كمال أبو المجد, مقال بعنوان: الخيط الرفيع بين التجديد في الإسلام والانفلات (16).
(17) الغنوشي, الحريات العامة في الإسلام.
(18) محمد سليم العوا,الفقه الإسلامي في طريق التجديد (227).
(19) محمد فتحي عثمان, الفكر الإسلامي والتطور (87).
(20) سليمان الخراشي, القرضاوي في الميزان (182).
(21) الشيص: رديء التمر, ابن منظور الإفريقي, لسان العرب (7/256).
(22) تقدم تخريجه.
(23) مسلم كتاب الفضائل, باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش (4356).
(24) سعيد بسطامي, مفهوم تجديد الدين (252).
(25) أبو داود: كتاب الأشربة, باب: في الشرب من ثلمة القدح (3234)، وأحمد: (11336), وهو حديث حسن كما في صحيح الجامع الصغير (6849).
(26) المرجعان السابقان نفسهما, وهو حديث صحيح كما في صحيح الجامع الصغير (6820).
(27) مسند أحمد: (14874), وهو حديث صحيح كما في صحيح الجامع الصغير (6823).
(28) محمد عمارة, معالم المنهج الإسلامي (116).
(29) سعيد بسطامي, مفهوم تجديد الدين (256 ــ 257).