العثرة المُكبِّلة
8 رجب 1435
يحيى البوليني

كعادة ما يحدث مع الكثير منا فيما نمتلكه من آلات في بيوتنا , تكون هناك فترة في عمل الآلة تنتظم في أدائها وتنطلق بسرعتها التي تعمل فيها ثم ياتيها فترة تتعطل فيها سرعتها ويكبل سيرها فتقل انتاجيتها ويضعف اداؤها , وربا يقف الكثير من أهل المعرفة حائرين امامها , فكل ما فيها سليم , حتى ياتيها حاذق فيضع يده على موطن الخلل فيها ويستخرج قطعة بسيطة من الشوائب , فتعود مرة أخرى للانطلاق كما كانت على حالها الأول وكانها لم تصب بسوء . وهكذا النفس البشرية في أمور التربية الروحية في السير إلى الله سبحانه , ففي بداية الالتزام تنطلق سائرة إلى الله باقبال واشراق , تتطلع لكل سام من الخلق والسلوك , تخف وتنشط كثيرا للطاعات , لا تجد صعوبة في ترك كل ما يشينها , وتبتعد بكل يسر عن كل ما لا يليق بها . ولكنها بعد فترة تاتيها شائبة من الشوائب , يراها العبد بسيطة ويسيرة , لكنها تعلق في قلبه وتكون حائلا بينه وةبين الانطلاق بنفس السرعة والاقبال واليسر التي كانت عليه النفس , فتثقل عليه الطاعات , ويعسر عليه كل ما كان يسيرا أمامه , وتهون في عينه أشياء كان يعدها في سابق ايامه من الكبائر . أنها العثرة المكبلة التي تكبل صاحبها عن معاودة الانطلاق والاستمرار فيه , وهي عثرة لا ينتبه إليها الإنسان الا بصعوبة , ولا ينتبه لها الا حذاق المربين الذين يتجولون داخل النفوس ويعلمون دروبها وأغوارها . إنه لم يتغير ولم يقصر أو لم يتعمد التقصير هكذا يظن في نفسه عند مراجعتها , إنه يظن أن ما به بأس فيتساءل كثيرا من أين أتى ما يكبل انطلاقه . لاشك وإنها الذنوب الخفية , ذنوب السر التي لا يطلع عليها الا الله , هي الذنوب التي أبكت صحابة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم , وهي الوصية التي أوصى بها الإمام مالك تلميذه الشافعي حينما رأى وفور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه فقال له : " إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية " . أنت حكيم نفسك : ولا احد يعلم بهذا الذنب بعد ربك إلا أنت , فلكل منا عثرته التي يتعثر فيها , والتي يجب عليه في نفس الوقت أن يقاومها ويتوب منها وينقي قلبه من أثارها وشوائبها , فكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم حال المؤمن أنه على حال دائم من مراجعة نفسه ومقاومة ذنبه الذي يكبل قدميه ويتسبب في عثرته , فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من مؤمن إلا و له ذنب، يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه، حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنا، توابا، نسيا، إذا ذُكِّر ذَكَر" [1] . كلنا ذاك الرجل : فهذا الحديث وصف حال للمؤمن الذي يعاني من ذنب يعلمه , ويعلم أنه السر وراء عثرته , وربما لا يصارح به أحدا ولا يعلنه لبشر , ويستكتمه في قلبه فلا يطلع عليه أحد , ولكنه يظل دوما كسير النفس مقيدا مكبلا لا يتحرك في سيره إلى الله كما كان , وتتعطل إمكانياته ومواهبه عن الخروج لنفع نفسه ولنفع المسلمين ابتغاء مرضات الله . وتكاثرت كلمات سلفنا الصالح في تكبيل المعصية للنفوس ووقوفها كسدة تسد مسالك سريان الطاعة للقلوب , فأخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه قوله : " إن الرجل ليحرم قيام الليل وصيام النهار بالكذبة يكذبها " وقال الفضيل رحمه الله: " إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار ، فاعلم أنك محروم ، كَبَّـلَتك خطيئتك ". ويقول طبيب القلوب الحاذق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: " أجمع العارفون بالله بأن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات" , وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله : "خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس" !! فكم من طاقة عطلتها هذه العثرة , وكم من موهبة خفتت بهذا القيد , وكم من نعمة سلبت وكم من نقمة أتت وكم من قلب كان مضيئا بنور وبهاء الطاعة والإقبال سودته وأظلمت نوره هذه الذنوب الخفية . أنها العوائق المؤثرة التي تكبل الأقدام عن الإقدام , والتي تضعف القلوب عن الوقوف بقوة وثبات في مواجهة الباطل , وهي التي تجعل أحدنا يتأخر حين يتقدم غيره , ويجبن حين يقتحم غيره المفاوز لا يهاب ولا يخشى إلا الله , وهي التي تجعل أحدنا يضع عشرات المعاذير والأسباب لتبرير موقفه المتخاذل عن نصرة الحق الذي يعلمه يقينا والتي ربما يستطيع أن يقنع بها غيره , ولكنها في غالبها مجرد واجهات فقط ليخفي بها عورة قلبه ومعاناته وضعفه عن مقاومة شغف نفسه بذنب من ذنوب السر . ---------------- [1] صحيح الجامع 5735