خيبة أمل المثقف المراهن على أمريكا!!
7 رجب 1435
منذر الأسعد

هذه الرسالة كتبها المثقف السوري المناوئ لعصابات بشار الأسد، هو الدكتور وائل مرزا، وهي تحفل بالمرارة من الموقف الأمريكي إزاء الثورة السورية الفريدة..
مرزا يعتب على واشنطن ما يراه خذلاناً منها للشعب السوري الأبيّ، واختار أن تكون في هيئة رسالة مفتوحة، يخاطب فيها رئيس الدبلوماسية الأمريكية جون كيري.
لن نناقش هنا تجاهل الكاتب حقيقةً باتت تحظى بما يشبه الإجماع، وخلاصتها أن أمريكا متآمرة على السوريين، وأنها مارست سياسة إجرامية لإبقاء نيرون العصر بشار في كرسيه!!
إن هذه الرسالة تعتبر نموذجاً لبؤس المثقف الذي يراهن على الغرب، متوقعاً أن تساعده الدول الغربية في اقتلاع أحد أبرز عملائها من السلطة!!

المحرر

*******

 

رسالة إلى السيد جون كيري

بقلم: د.  وائل مرزا

السيد، جون كيري، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية
منذ سنوات، وتحديداً في ليلة 4 نوفمبر عام 2008م، حضرتُ "كلمة النصر" التي ألقاها الرئيس أوباما على ضفة بحيرة ميتشيغان في شيكاغو.  حرصتُ على حضور المناسبة شخصياً لأنني، كسوريٍ يهتم بالسياسة والتاريخ، ويؤمن بقدرة الإنسان على التغيير، اعتبرتُ ماجرى ظاهرةً بشرية فريدة.  فقد كانت أكبر تعبيرٍ عملي في العقود الأخيرة عن القيم الأصيلة لأمريكا، ثم إنني رأيتُ فيها يومذاك بدايةً لتحولٍ تاريخي إنساني سيكون له مابعدُه، طالَ التاريخ أو قصُر.

 

وقبل كتابة هذا المقال، تذكرتُ تصريحين من تصريحاتك.  كان الأول بتاريخ 14 ديسمبر عام 2003م لقناة فوكس نيوز، حيث قلت: "لقد صوتتُ لوضع صدام حسين قيد المحاسبة.  لقد علمتُ أن علينا تحميله المسؤولية.  لم يكن هناك شك بخصوص ذلك الأمر.  لكنني أعلم أيضاً أننا لو فعلنا هذا بعديدٍ كافٍ من القوات، لو أننا فعلناه بترتيات دولية.. لأمسكنا صدام حسين بسرعة أكبر.  ولربما كانت هناك خسارةٌ أقل في الأرواح.  لربما كنا في وضعٍ أقوى اليوم بالنسبة لما نقوم به".

 

أما التصريح الثاني فكان بتاريخ 26 أغسطس عام 2013م الماضي، حيث قلت مايلي بعدما قام نظام الأسد بضرب المدنيين بالأسلحة الكيماوية في غوطة دمشق: "ما رأيناه في سوريا الأسبوع الماضي يجب أن يهز ضمير العالم.  إن الأمر يتحدى أي منظومة أخلاقية.  لا تَشُكّوا في قولي.  يؤمن الرئيس أوباما أنه يجب أن تكون هناك محاسبةٌ لهؤلاء الذين يستخدمون أشنع الأسلحة ضد أكثر الناس ضعفاً في العالم".

 

ومنذ بضعة أيام، بتاريخ 16 ديسمبر، سمعنا كسوريين تصريحاتك المتعلقة بمؤتمر جنيف2، والتي تضمنت بعض تفاصيل رؤيتك ورؤية الإدارة الأمريكية له، ثم دعوة المعارضة السورية لحضوره على أساس كونه الطريق الوحيد لحلٍ سياسي في سوريا.

 

فاسمح لي يامعالي الوزير أن أناقش معك بعض مقولاتك في هذه التصريحات، فقط للإشارة إلى أننا كسوريين نقرأ التاريخ، ونحلل الأحداث، ونتابع الوقائع، ونفهم في السياسة، على الأقل فيما يتعلق بهذا الموضوع.

 

لن أتساءل، كما يتساءل السوريون، عما حصل بخصوص مقولة الرئيس أوباما، رئيس (أكبر دولةٍ في العالم) في نهاية عام 2011م عندما قال: "إن مستقبل سوريا يجب أن يُحدَدَ من قبل السوريين والرئيس بشار الأسد يقف في طريقهم.  ومن أجل الشعب السوري، فإن الوقت حان للرئيس الأسد بأن يرحل".

 

لن أحاول البحث عن تفسيرٍ للتجاهل المتكرر للرئيس أوباما وإدارته لمعنى الخطوط الحمراء التي وضعها أكثر من مرة.  فقد تجاوزنا كسوريين ذلك منذ زمن.

 

لن أغوص في تحليل أسباب تراجع أوباما عن تأكيداته بعد الضربة الكيماوية أن تصرفات النظام يجب الرد عليها عسكرياً، ثم في طريقة الانسحاب من الموضوع وتأجيله والالتفاف عليه لتحويله أخيراً إلى اتفاق مع النظام على نزع الأسلحة.  بمعنى أن عقاب المجرم باتَ يتمثلُ في مجرد نزع سلاحه في عُرف الولايات المتحدة.

 

لن أرجع إلى تصريحاته في خطاباته التي لا تُعد في أمريكا وخارجها عن دعم الشعوب في سعيها للحصول على الحرية والكرامة، وعن فهمه الخاص لآلام البشر الأقل حظاً في هذا العالم بسبب خلفيته العرقية.  ولا إلى تصريحاتك الواردة أعلاه.

 

لن أحفرَ في أسباب تسريب تقريرٍ لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية نشرته صحيفة وول ستريت جورنال منذ أسابيع قليلة، حيث تتوقع فيه امتداد الصراع في سورية لعشرة أعوام على الأقل، مؤكدة أن لدى الأسد القدرة في الحفاظ على السلطة في المستقبل القريب.  ولن أفتش أيضاً عن أسباب تسريب تصريحات الرئيس السابق للوكالة نفسها السيد مايكل هايدن التي قال فيها أن "انتصار الأسد قد يكون أفضل الخيارات في سوريا.

 

لن أفعل شيئاً من ذلك يامعالي الوزير، مع أن معاني الوقائع السابقة كبيرةٌ جداً على المستوى الحضاري والاستراتيجي فيما يتعلق بحاضر أمريكا ومستقبلها، وفيما يتعلق بصدقيتها السياسية والأخلاقية.

 

سأناقش فقط بعض مقولاتك الأخيرة، لنرى سوياً، ويرى معنا العالم كيف، ولماذا، وإلى أي درجة يمكن للسوريين أن يثقوا بأمريكا، خاصةً فيما يتعلق بموضوع مؤتمر جنيف2 وملابساته ومايمكن أن ينتج عنه.  سيما وأن هذا الموضوع كان محور تصريحك الأخير.

 

تقول في بداية الفقرة الرابعة من التصريح أنه "يجب أن يكون السوريون قادرين على تحديد مستقبل بلادهم" وأن "صوتهم يجب أن يُسمع" ثم تقول بعد قليل أن أي أسماء مطروحة لقيادة المرحلة الانتقالية يجب أن يوافق عليها كلٌ من المعارضة والنظام! ولا تكتفي بهذا، بل تقول بالحرف أن "هذا يعني أن أي شخصية تُعتبر غير مقبولة من قبل أي من الطرفين، سواء كان الرئيس الأسد أو أعضاء المعارضة لا يمكن لهم أن يكونوا جزءاً من المستقبل"!؟

 

هكذا، بكل بساطة، لا تُعيد فقط اعتبار أكبر مجرمٍ في التاريخ المعاصر رئيساً، بل تضعه في نفس موقع المعارضة التي تمثل الثائرين عليه، وتعطيه حق الاعتراض على أي اسم يمكن أن يطرحوه!..

 

لا تكفي، يامعالي الوزير كل إشارات التعجب والاستفهام في العالم للتعبير عن الموقف الفكري والقانوني والشعوري الإنساني من هذا التصريح.

 

فإضافةً إلى الملاحظة السابقة، هل فاتك المعنى السياسي لهذا الكلام إذا أخذنا بالاعتبار ما يعرفه أضعف متابع للموضوع السوري، فضلاً عن وزير خارجية (أقوى دولةٍ في العالم)؟

 

ألا يعني هذا، بكل وضوحٍ وبساطة، أن جنيف2 بهذا الفهم يضع الأرضية المناسبة جداً للفشل، حيث يبدو واضحاً لقريبي البالغ من العمر عشر سنوات أن الأسد يُعطَى، من البداية، وحتى قبل بدء الاجتماع، ورقةً لرفض أي أسماء وطنية حقيقية تُطالب برحيله هو شخصياً.

 

ماذا يعني هذا يامعالي الوزير؟ هل يعني، كما يتساءل بعض الخبثاء، أن أمريكا تريد أن يكون جنيف2 مدخلاً لعمليةٍ دبلوماسية تأخذ سنوات، وربما عقوداً من الزمان؟ خاصةً مع العبارة التي أوردتها بعد ذلك، والتي تؤكد فيها علمك وعلم الإدارة بأن مؤتمر جنيف "ليس هو النهاية وإنما مجرد بداية، فهو إطلاق عملية procee" كما ذكرت.

 

لنترك هذه النقطة للتفكير ولنبحث في غيرها معالي الوزير.
ففي الفقرة التالية تتحدث عن قلقك الشديد وإدارتك من صعود التطرف.  ثم تقول أن "العالم لا يحتاج لتذكير بأن سوريا أصبحت مغناطيساً للجهاديين والمتطرفين.  إنها أقوى مغنطيس للإرهاب من أي مكان آخر اليوم".

 

وبهذه المناسبة، نود أن نذكرك ونذكر العالم أننا، في المعارضة السورية، حذرناكم تحديداً كمسؤولين أمريكان، وحذرنا غيركم من دول العالم، من خطورة وصولنا إلى واقع اليوم منذ زمانٍ بعيد.  ويمكن للسهولة والسرعة يا معالي الوزير أن تعود لمحاضر لقاءات المعارضة مع السيدة كلينتون ومع المبعوث السابق السيد فريدريك هوف ومع المبعوث الحالي السيد روبرت فورد، ومعك شخصياً.

 

ونحن كمعارضة سورية إذ نؤمن بأن إسلام سوريا هو إسلام معتدل، وبأن هذا هو خيار الغالبية العظمى من مسلميها، وبأن هذا يعتبر حقيقةً معروفةً تاريخياً لدى أقلياتها، فقد كنا ولانزال نعلن موقفنا ضد التطرف علناً وبكل وضوح.  لكن حديثنا عن ضرورة العودة إلى المحاضر يتعلق بحوارات سياسية ودبلوماسية تُعتبر أكثر توثيقاً في عالم السياسة.

 

وفي جميع الأحوال، ستجدون تفاصيل كلامنا في المحاضر المذكورة، وقد تُدركون الآن أن مثل هذه التصريحات المذكورة أعلاه إما أن تكون تعبيراً آخر عن أخطاء أمريكا الإستراتيجية التي ترتكبُها ثم تحاول تجاهُلها، أو أن هناك تفسيراً آخر لا نعرفه للموضوع، وربما يتحدث عنه الخبثاء أيضاً هنا وهناك.

 

ولا تتصور مقدار امتناننا يامعالي الوزير، كسوريين، عندما تقول بعد ذلك: "خلال ذلك الوقت، سنستمر في الدفع لمحاولة تأمين توصيل للمساعدات الإنسانية" وبمساعدة الروس كما ذكرت.  ويمتد الامتنان ليطال ما ذكرته من: "أننا سنقاتل (أو نكافح) من أجل تحقيق وقفٍ لإطلاق النار حيثما نستطيع، وسنقاتل من أجل إطلاق سراح الصحفيين المختطفين وعمال الإغاثة وآخرين من أجل تحسين شروط التفاوض".  لا نقول هذا لأننا نسينا مئات الآلاف من معتقلينا، فهؤلاء أمانةٌ في أعناقنا، وإنما لأننا نقدر حقاً جهود الصحفيين الذين ينقلون للعالم الحقائق عما يجري في سوريا، ولعمال الإغاثة لأنهم يحاولون إغاثة شعبنا.

 

فنحن، كسوريين، رغم بعض حيرةٍ تتملكُنا حيال اضطرار (أقوى دولةٍ في العالم) لكل هذا الكفاح والضغط لـ (محاولة) تحقيق مثل القضايا الواردة أعلاهُ، إلا أننا لا نملك إلا أن نكون ممتنين للمحاولة.

 

وأؤكد لك يامعالي الوزير أننا نتفهم تماماً ما قلته في نهاية التصريح من أن "أي أمرٍ من هذه الأمور لن يكون سهلاً"..  ويكفينا ما ختمتَ به التصريحات من التذكير بتبرع أمريكا بمبلغ 380 مليون دولار في مؤتمر المانحين الأخير في الكويت "لمحاولة رفع الألم والمعاناة عن اللاجئين".

 

معالي الوزير

كتبتُ خلال السنوات السابقة الكثير من المقالات في الصحافة العربية عن أمريكا وعن علاقتها بالعالم العربي.  تحدثتُ عن أوباما نفسه في (أوباما يختصر المسافة بين الحلم والحقيقة)، واستقرأتُ دلالات انتخابه داخلياً في (أميركا الباحثة بلهفةٍ عن التغيير)، وبحثتُ عن معاني انتخابه دولياً في (أوباما وجائزة نوبل للسلام: العالم يتحدث مع أميركا بلغةٍ جديدة)، وغيرها العشرات من المقالات.

 

وفي أكثر من مقال، كان ثمة حديثٌ عن أملٍ، ليس لديّ فقط وإنما لدى بلايين البشر، بأن يُعبّر أوباما وإدارته عملياً عن القيم الأصيلة لأميركا، خاصةً فيما يتعلق بحقوق الشعوب في الحرية والديمقراطية وصناعة حاضرها ومستقبلها.

 

لا أعيش أية أوهام في هذا المجال، فقد أكّدتُ في في مقالٍ بعنوان (هل العرب جاهزون للتعامل مع أوباما) على أن الرجل "يحمل رؤيةً للعالم أكثر واقعيةً وأكثر إنسانيةً بكثير من غيره"، غير أنني أضفتُ قائلاً: "لكن هذا لايعني أبداً أن أوباما سيتساهل في تأمين المصالح الإستراتيجية لبلاده من أجل (سواد عيون) العرب والمسلمين".  وشرحتُ أسباب وخلفيات تلك الحقيقة في أكثر من مقال.

 

لكنني كتبتُ مؤخراً مقالاً بعنوان (هل تفهم أميركا الثورة السورية بشكلٍ استراتيجي؟) طرحتُ فيه أسئلةً جديةً خلصتُ معها إلى أن هناك ظلالاً كبيرةً من الشك في هذا الأمر، وإلى أن الإدارة الأمريكية بحاجةٍ إلى كثيرٍ من المراجعات فيما يتعلق بهذا الموضوع.

 

معالي الوزير

قبل انتخاب أوباما رئيساً بفترةٍ قصيرة، لم أستغرب ما حصل بعد إلقائي محاضرةً في جامعة كاليفورنيا في مدينة لوس أنجلوس (UCLA) عن أحوال الشرق الأوسط في ذلك الوقت، وعن دور إدارة بوش فيما آلت إليه الأوضاع.  فقد طَلَبَت سيدةٌ أمريكية أكاديمية بيضاء التعليق قبل أي شخصٍ آخر، وقالت أنها كانت حريصةً على أن تكون أول المعلقين لتعتذر للعرب وللعالم عن حقيقة أن أمريكا انتخبت بوش رئيساً.
بعدها، قَرّرت السيدة الأميركية الراقية انتخاب أوباما.
ستنتصر الثورة السورية في نهاية المطاف يامعالي الوزير.
لكنه سيكون يوماً مُحزناً، لي ولبلايين البشر، إذا رأيتُ تلك السيدة في قادم الأيام وسمعتُ منها اعتذاراً عن قرارها الثاني وعن قرار الأمريكيين مُشابهاً للاعتذار الأول..