فالهمها فجورها وتقواها
28 جمادى الأول 1435
د. خالد رُوشه

[email protected]

 

النفس البشرية عجيبة من عجائب الخلق , وآية من آيات الله سبحانه , جل من أبدعها وتعالى من أبرأها , هي الصالحة التقية المطمئنة إذا تاقت إلى مولاها , وتعبدت إلى خالقها وانضبطت بضوابط شرع نبيها صلى الله عليه وسلم وتقاربت من صفاته , وهي الفاجرة الفاسدة المتمردة إن هي نأت وبعدت وانحرفت عن سبيل ربها المستقيم وتقاربت مع سبل الشيطان الرجيم .

 

والنفس البشرية عميقة عمق البحر الأعظم وخفية خفاء لا حدود له وواسعة الجنان مترامية الأركان , تحوي العالم بأسره , وتزيد , وكل امرؤ يحمل بين جنباته نفسه يستطيع أن يحيى بها في عالم مخصوص , ولكل نفس صفات وأوصاف , رغبات , وشطحات , وآمال , ولكل نفس خفايا ومناحٍ , ولكل نفس قدرة على المكر والخداع والتلون ز

 

 

فكل امرىء من حولنا يعيش في عالم نفسه , ويحيا في محيطها , ينضبط بضوابط عالمها , ويسير في مسالكها التي نظمت لها , حتى لكأنه أمة وحدة , فلربما يكون أمام الناس صالحا ونفسه تغلي بالشرور , وربما يكون أمام الناس خاشعا ونفسه تعاني داء الكبر , و لربما يكون أمام الناس متصدقا , ونفسه يملؤها الشح والبخل , ولربما يعمل العمل الحسن ورجاؤه من خلفه خبيث , ولربما يتكلم بالكلمة الحسنة يريد بها غرضا شريرا , أو ربما يصمت فلا يتكلم يريد بذلك عجبا وفخارا , حتى إنه في بعض الأحيان لينتقص نفسه وينتقدها ويسبها أمام الناس وهو يرجوا رفعتها وتعظيمها وأن يقال عنه عابد ورع .

 

 

ولذلك لا يحاسب الله الناس على مجرد أعمالهم الظاهرة بل على طهارة نفوسهم وسلامة قلوبهم , ولا يقبل سبحانه من النفوس إلا الزكية العابدة التقية التي غلبت هواها وكسرت شهواتها  , مستقيمة على أمر الله سبحانه " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " . يقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم " .

 

 

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة في ما يُرى للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها , وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يُرى للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " .

 

 

إنه الرياء إذا والنفاق إذا الذي جعل ذلك الذي يعمل أعمالا تُرى للناس حسنة وهي في الحقيقة خبيثة , وفي الحديث " أول من تسعر بهم النار ثلاث , مجاهد , ومتصدق , وقارئ " , سعرت به النار لكونهم عملوا تلك الأعمال من أجل الناس شهرة ورياء ولم يريدوا بها وجه الله .

 

 

إنها أنفس هؤلاء التي كدستهم في النار , وإنها أنفس كثير من أهل الخيانة والكذب والنفاق , استطاعوا أن يخدعوا الناس بمظاهرهم , وقلوبهم أنتن من الجيف , ففضح الله سترهم , وكشف خبيئتهم , ولقاهم حسابهم أمام الخلائق أجمعين .

 

الصالحون أدركوا تلك الحقيقة , فسارعوا في تهذيب نفوسهم وتأديبها وكبح جماحها , والإمساك بزمامها وإقامتها على أمر الله , فعرفوا خفاياها , وأدركوا ماردها , فصاروا يحذرون الناس من مسالكها , فنصحوا الناس فقالوا  : " خير الأعمال ما أكرهت عليه النفس " , وقالوا : " أن النفس كالطفل إذا ربيتها على حب الرضاعة تعودت وإن فطمتها تنفطم " , وقالوا : " إن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ", وقالوا : " إن هوى النفس قائدها إلى النار , ومكارهها قائدتها إلى الجنة "

 

وجماع تهذيب النفس وتربيتها أربعة أمور , أولها مراقبة الله الواحد الأحد , وثانيها كثرة ذكره , قياما وقعودا وثالثها تذكر الآخرة فلا تغيب , و رابعها عدم إجابتها فيما تحب إلا أن كان في مرضاة الله , قال سبحانه " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوي , واما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوي " .