جديرة.. نعم كصورة مزعجة جدا
8 جمادى الأول 1435
أمير سعيد

تتزاحم الصور حولنا من كل بلد إسلامي، تطيرها الوكالات، بل صارت تقتحم علينا آفاق رؤيتنا؛ مذابح، مظاهرات، قمع، براميل متفجرة، شهداء، محاكمات، اقتحامات.. فبراميل متفجرة فوق رؤوس السوريين، أو محاكمات رؤساء، أو تهجير قسري.. تدور أعيننا بينها، وتتكاثر حولها التوقعات والقراءات، وكلها تنم عن تغيير هائل قادم، ومخاض لجنين يولد من رحم كل هذه المآسي..

 

كثيرة هي الصور المزعجة هذه الأيام، لكن بعضها ذو دلالة مستقبلية خطيرة، ومن بين أهمها تبرز تلك الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام من دون التوقف طويلاً عند دلالاتها.. صورة المظاهرة الحاشدة جداً للمتدينين اليهود الرافضين لمشروع قانون الخدمة العسكرية الإلزامية للمتدينين اليهود، حيث ينص المقترح على إلغاء الإعفاء من الخدمة العسكرية لصالح تعلم التوراة الذي حظوا به على مدار عقود مضت.

 

الأعداد كانت غير مسبوقة في مدينة القدس المحتلة، حيث صبغ مدخل مدينة القدس المحتلة باللون الأسود؛ فعشرات الآلاف بل ربما مئات الآلاف من يهود الحريديم الذين يمثلون أكثر من 10% من اليهود الغاصبين لأرض فلسطين احتشدوا للتعبير عن رفضهم لقانون مقترح يقضي بأن يخدموا في جيش العدوان الصهيوني كبقية اليهود لمدة 17 شهراً فيما تعفيهم القوانين من ذلك حتى عامين مضيا عندما قضت المحكمة العليا "الإسرائيلية" بضرورة إلزامهم بالخدمة في الجيش وعدم تفريغهم للعبادة والتعليم الديني (تعلم التوراة)؛ فبحسب صحيفة هاآرتس العبرية، فإن "أعداد الحريديم فى تزايد مستمر فى المجتمع الإسرائيلى، وهذا ما يقلق الدولة لأنهم لا يعملون، ويحصلون على إعانات من الدولة وتبرعات، وهو ما يستنزف موارد الدولة، وفى المقابل يتجنبون القيام بالواجبات التى يلتزم بها الآخرون".

 

"مسيرة الصلاة والصراخ" وفق تسمية منظمي المظاهرة التي أطلق عليها "مليونية" تثير شجوناً لدى المسلمين؛ فمسرى النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن تقبل رؤيته من هذه الزاوية أبداً، وليس هيناً على النفس أن يصطبغ بهذه الصبغة القاتمة؛ فالمحتشدون وإن كانوا يحتجون على أمور قانونية داخل الكيان؛ فإن تجمعهم لا نستطيع أن نتجاهل دلالاته المفجعة؛ فهذه الأمواج البشرية من اليهود الذين يطلقون على أنفسهم "الحريديم" أو "الأتقياء" تكشف بجلاء عن مدى تغلغل الحالة الدينية في بلد ينص دستوره على يهوديته ويمنع قيام أحزاب لا تعترف بـ"يهودية" ما يسمى بدولة "إسرائيل".

 

اليهود المتدينون إذن يتكاثرون بقوة داخل الكيان الغاصب، واحتشادهم هكذا في مدينتنا المقدسة الثالثة معناه أن تهويدها قاب قوسين أو أدنى؛ إذ ما الذي يمنع "مليونية" كهذه أن تحدث تغييراً فجائياً في هوية المدينة، وماذا عسانا نصنع لو توجه هؤلاء فأضرموا النار في المسجد الأقصى أو فجروه؟

 

الصورة مفزعة جداً في حقيقتها، ليس لأننا لا نؤمن بقوله تعالى } الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ{ بل لأننا نفتقر إلى ما يكفي من هؤلاء الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة في أكثر مراحل ضعف المسلمين وأشدها قسوة وأكبرها مذلة ومهانة لهم وأوضحها تجسيداً لمفهوم الغثائية والهشاشة العددية ومحدودية التأثير.

 

مفزعة جداً، لأن ما ترتسم معالمه الآن أكثر فداحة من حدود سايكس بيكو التي قاربت على التغيير في ذكراها المائة التي لم يعد يفصلنا عنها كثير من الشهور.

 

مفزعة جداً، لأن ما يتمتع به اليهود المتدينون في الكيان الغاصب لا يمكن أن تجدوا له نظيراً في أي بلد مسلم بات يعامل متدينيه كأنهم ورم خبيث يتوجب استئصاله ولو نزفت الأوطان الدم والكرامة والهوية والاستقلال؛ فهؤلاء المحتجون رغم امتيازاتهم الهائلة، ورغم بطالتهم، ورغم احتجاجهم على حكم قضائي قضت به أعلى هيئة قضائية في الكيان الصهيوني، ورغم اعتراضهم الفاقع على الانخراط في جيش "بلادهم" التي يعتبرون، فإن أحداً لم يصمهم بالخيانة العظمى، ولا دعا إلى حبسهم وإقصائهم ولم يعدهم "شعباً" دون شعب، ولم يطالب بحرمانهم من امتيازاتهم الأخرى، ومضى حشدهم الهائل دونما اعتداء من السلطات الأمنية، لا بل هبت لحمايتهم فوفرت نحو خمسة آلاف شرطي لتأمين مظاهراتهم المناهضة لمشروع قانون يناقش في برلمان منتخب أقر له كل الصهاينة بالتشريع والرقابة على مؤسسات الكيان الغاصب، ومع أن القانون لم يخرج إلى النور بعد، ولم يمر إلى بقنوات تشريعية طبيعية (فيما يخص كيانهم الغاصب)؛ فهم اعتبروه عدواناً سافراً عليهم إلى الحد الذي جعل تجمع بلعاز اليهودي يقول في إحدى مجلاته "إننا وعلى الرغم من الألم الذي سينتج عن مغادرة إسرائيل، كونها بلاد مقدسة، إلا أننا نعدكم، وفي اليوم الأول من التسجيل للتجنيد في الجيش الإسرائيلي، ستبدأ مكاتب الهجرة بالتسجيل".. سيهاجرون لو أقر القانون إذن، ولا أحد قال "إذن لا تعودوا وسنسحب منكم هذه الجنسية فأنتم لا تستحقونها"!

 

 

إن المفزع بشدة في هذه الصورة هو مدى الاحترام الذي يوليه الكيان الصهيوني لمتدينيه فيما تشحذ الدول الإسلامية أنصال سيوفها لجز رؤوس متدينيها إلا فيما ندر؛ فالمقارنة بين هذه الحالة لكيان غاصب متقدم علمياً لا يرى في علمانية بعض طبقاته حائلاً دون إيلاء المتدينين قدرهم وحضورهم وتأثيرهم وحتى امتيازاتهم، ودول إسلامية تذبح بعلمانيتها فكرة التدين، ومتلازمة التدين الإسلامي والتقدم الحضاري وتجعلهما نقيضين.. مقارنة كهذه جد مؤلمة.

 

والجارح للنفس المسلمة، أن الجيش الصهيوني ذاته الذي لا يريد الحريديم الخدمة فيه، هو جيش "متدين" بالأساس، ويقوم على "يهودية الدولة"، وفي عين هذا المعنى يقول الباحث الأكاديمي الهيثم زعفان في كتابه القيم "مكانة المتدين في أمريكا وإسرائيل" [2012] "إن كل الشواهد لتؤكد على أن العسكرية في الكيان الصهيوني ذات مرجعية عقدية، واستحضار التدين فيها واضح وبقوة وينتقل من مرحلة التشجيع إلى الفرض، وأبرز مثال على ذلك هي الحرب على غزة في 2009 التي مثل الحاخامات فيها حضوراً قوياً من خلال اتصالاتهم الأفقية بالمسؤولين والقادة العسكريين"، ويلاحظ بالتأكيد أن هذا الحضور لهم لم يكن خادماً للاستراتيجية العسكرية بل واضعاً لها بخلاف حالة بعض الشيوخ الملتصقين بالسلطة في كثير من البلدان الإسلامية الذين يقتصر دورهم على التبعية لا الريادة فيما يخص الأيديولوجية الخاصة بجيوشهم.

 

الصورة تظل مفزعة، كونها تعبير واضح عن مكانة لا تدانيها مكانة للمتدينين في كيان يغتصب أرض فلسطين، ويحضر لضربته الكبرى التي تستهدف ثالث مساجدنا التي لا يجوز شد الرحال إلا إليها، عبر هذه "البروفة" الجماهيرية الحاشدة التي أريد لها من طرف خفي أن تؤكد وتشدد على "يهودية القدس" تمهيداً لما هو قادم، مهما تدثرت بأهداف أخرى أو ضمنتها إلى جوار مشروعها الأساسي. فبحماية الشرطة الصهيونية لبست القدس الحداد وارتدت السواد على حال أمتنا، وفي أعقاب مناقشة مشروع قانون السيادة الصهيونية على الأقصى، وفي أجواء من التمهيد الأمريكي لتمرير اعتراف قلة فلسطينية عميلة متسلطة على الضفة الغربية بـ"يهودية دولة إسرائيل" من خلال اعتراف دولي يتضمن اعترافاً فلسطينياً تلقائياً، يجري دمج مدينتنا الأثيرة الأسيرة داخل سياج يهودي سميك..