بيع اللحم بحيوان من جنسه أو من غير جنسه
17 ربيع الثاني 1438
د.عبدالله آل سيف

الحمد له وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد.

فصورة المسألة:
أن يبيع لحمًا من شاة - مثلًا - بحيوان من جنسه حيًا أو ميتًا، وهذا يعني أن اللحم سيباع بلحم معه غيره من عظم وشحم وجلد وصوف ونحوه، وقد يباع به حيًّا.

اختيار ابن تيمية:
اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جواز بيع اللحم بالحيوان إذا لم يقصد اللحم وإلا حرم، سواءً كان من جنسه أو من غير جنسه، خلافًا للمشهور من مذهب الحنابلة [1].

تحرير محل النزاع:
أ- بيع اللحم بحيوان غير مأكول يجوز عند عامة الفقهاء خلافًا للشافعية، ومحل الخلاف عند الجمهور في المأكول [2].

ب- ومن مواطن النزاع بيعه بغير جنسه.

القول الأول:
أنه لا يجوز بيع اللحم بالحيوان، سواءً كان من جنسه أو من غير جنسه.

وهذا مذهب الشافعية [3]، ووجه عند الحنابلة اختاره بعض الأصحاب [4].

ونسب لابن أبي بكر الصديق وابن عباس [5]، وهو قول الفقهاء السبعة كسعيد بن المسيب وأضرابه[6]، وهو قول الليث والأوزاعي [7].

القول الثاني:
أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه ويجوز بغير جنسه. وهو مذهب المالكية [8]، والحنابلة [9].

القول الثالث:
أنه يجوز بيع اللحم بالحيوان سواءً كان من جنسه أو من غير جنسه متفاضلًا دون النسيئة فلا يجوز.

وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف وهو المذهب عندهم [10]، وهو قول الظاهرية [11].

القول الرابع:
أنه إذا كان المقصود اللحم فيحرم سواءً بيع بجنسه أو بغير جنسه، أما إذا لم يقصد اللحم فيجوز.

وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم [12].

أدلة القول الأول:
1- ما روى سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن بيع اللحم بالحيوان". أخرجه مالك في الموطأ [13]، والبيهقي [14]، والدارقطني [15]. واحتج به الإمام أحمد فدل على صحته عنده[16].

ونوقش:
بأن الحديث مرسل، والإرسال نوع من أنواع الانقطاع.

وأجيب عن المناقشة:
بأن له شواهد كحديث سهل الآتي، وابن عمر.

واعترض على هذا الإجابة:
أ- بضعفها أيضًا كما سيأتي، فحديث سهل فيه كذاب كما قال ابن معين.

قال ابن القيم:
أما الأول: فهو حديث لا يصح موصولًا، وإنما هو صحيح مرسلًا؛ فمن لم يحتج بالمرسل لم يرد عليه، ومن رأى قبول المرسل مطلقًا أو مراسيل سعيد بن المسيب فهو حجة عنده. قال أبو عمر: لا أعلم حديث النهي عن بيع الحيوان متصلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت، وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب ا.هـ.[17].

وبين البيهقي أنه لا يصح عن سهل بن سعد [18]. وكذا قال الدارقطني [19] لأن في سنده رجلًا كذابًا كما قال ابن الجوزي،ومثله لا يصلح شاهدًا [20].

قال الشوكاني:
ولا يخفى أن الحديث لا ينهض للاحتجاج بمجموع طرقه ا.هـ. [21].

وكذا قال ابن حزم: إنه لا يصح الأثر الوارد في الباب، ولذا رجح الجواز [22].

ب- ولو صح فهو محمول على بيع النسيئة، أو على ما قصد لحمه.[23]

2- حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع اللحم بالحيوان" أخرجه الدارقطني وأبو نعيم في الحلية من طريق مالك بن أنس عن الزهري.[24]

ونوقش:
أ- بضعف الحديث، حيث ضعف الحديث الدارقطني، وأقره ابن حجر، وحكم البيهقي بالغلط في إسناده [25]. وفي سنده رجل كذاب، يروي الموضوعات عن الأثبات [26].

ولذا قال ابن عبد البر: إنه حديث موضوع [27].

ب- ولو صح فهو محمول على ما قصد لحمه دون ما لم يقصد [28].

3- حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع اللحم بالحيوان" أخرجه البزار [29].

ونوقش:
أ- بضعف الحديث، فقد اعترض ابن حجر والهيثمي على الحديث بوجود رجل ضعيف، وهو ثابت بن زهير وهو منكر الحديث كما قال البخاري والدارقطني، وقال ابن عدي: يخالف الثقات في المتن والسند [30].

ب- ولو صح معناه فهو محمول على ما كان مقصود اللحم، ولا يقال: لا أثر للنية هنا، بل النية معتبرة في أبواب المعاملات، ولذا فرقت بين القرض المباح والربا المحرم مع اتفاق الصورة [31].

4- حديث الحسن البصري عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الشاة باللحم " أخرجه الحاكم وصححه على شرطهما وسكت عليه الذهبي [32].

ونوقش:
أ- بأن في سنده الحسن البصري وهو مدلس ويرسل كثيرًا كما قال ابن حجر وغيره.

وقد اختلف في سماعه من سمرة على أقوال عدة: منهم من قال سمع، ومنهم من قال لم يسمع منه، ومنهم من قال سمع حديثًا واحدًا فقط في العقيقة دون غيره.[33]

وحديث مثل هذا لا يحتج به على سبيل الانفراد [34].

وأجيب عن المناقشة:
أ- بأن هناك من أثبت سماعه ولذا روى عنه البخاري حديث العقيقة في صحيحه.

ب- ثم يشهد له مرسل سعيد بن المسيب وهو لا يروي إلا عن الثقات، وقد صحح البيهقي إسناده إلى الحسن.

5- حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع حي بميت" أخرجه البيهقي [35].

ونوقش:
أ- أنه مرسل كما ذكر البيهقي.[36]

ب- ولو صح فهو محمول على مقصود اللحم، وحمله الحنفية على بيعه نسيئة[37].

6- ما ورد عن ابن عباس: أن جزورًا نحرت فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني جزءًا بهذا العناق. فقال أبوبكر: لا يصلح هذا. قال الشافعي: لا أعلم مخالفًا لأبي بكر في ذلك. وقال أبو الزناد: وكل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان [38].

ونوقش:
أ- بضعف الأثر لوجود رجلين ضعيفين كما ذكر الشوكاني وغيره [39].

ب- أن البعير من إبل الصدقة فكره أبوبكر بيع لحمه؛ لأنه إنما نحر ليتصدق به على الفقراء، ولهذا قال: لا يصلح هذا، والدليل إذا دخله الاحتمال سقط الاستدلال به [40].

7- واحتجوا بالإجماع الذي حكاه الشافعي سابقًا.

ونوقش:
بضعف الأثر الذي بنى عليه حكايته لعدم الخلاف.

8- ومن المعنى والنظر: أن اللحم نوع يجري فيه الربا فمنع منه هنا [41]، واللحم كله جنسه واحد [42].

أدلة القول الثاني:
وقد استدلوا بأدلة أصحاب القول الأول لكنهم خالفوهم في أن اللحم كله جنس واحد بل قالوا: هو أجناس فلذا حرم في بيعه بجنسه وجاز بغير جنسه [43].

وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم"[44].

أدلة القول الثالث:
1- أنه باع مالًا ربويًا بما لا ربا فيه، أشبه بيع اللحم بالدراهم، أو بيع لحم بحيوان غير مأكول أو من جنسه [45].

وأدلة إباحة البيع عمومًا تدل على أن الأصل في مثل هذا الإباحة كقول تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [46].

وهذا عام لا مخصص له.

ونوقش:
بأنه مخصص بأحاديث النهي عن ذلك.
2- أن اللحم جنس والحيوان جنس، فجاز بيعهما ببعضهما متفاضلًا [47].

3- واستدلوا على منعه نسيئة بالإجماع على تحريم ذلك، لوجود الجنس المحرِّم للنساء؛ لأن اللحم الخالص من جنس اللحم الذي في الشاة [48].

أدلة القول الرابع:
1- أنه إذا أراد اللحم فهو بيع موزون بموزون مقتات من غير تماثل فيحرم، وإن أراد به غير اللحم فقد دخل اللحم تبعًا؛ إذ يختلف الحيوان بمقاصده عن اللحم المجرد، إذ الحيوان قد يقصد لنفعه أو لجلده أو لشحمه أو للبنه، ويدخل تبعًا مالا يدخل استقلالًا [49].

2- أن النيات في أبواب المعاملات معتبرة، ولذا فرقت النية بين القرض المباح وبين الربا المحرم مع أن الصورة متفقة.

الترجيح:
والراجح والله أعلم هو القول الرابع؛ لأنه مقتضى الجمع بين النصوص، ولقوة دليله وتعليله.

وسبب الخلاف في المسألة:
الخلاف في اللحم هل هو جنس واحد أو أجناس عدة؟.فمن قال جنس واحد كالشافعي، منع بيعه بحيوان ولو من غير جنسه.

ومن قال أجناس كالمالكية والحنابلة،قالوا: يجوز بغير جنسه [50].

ومن أسباب الخلاف:
الخلاف في علة الربا فعند ابن تيمية الكيل أو الوزن مع الاقتيات، ولما كان الحيوان إذا لم يقصد لحمه لا يراد به اللحم فلذا جاز؛ لأنه ليس موزونًا والحالة هذه، إذ قد يراد لبنه أو جلده أو الركوب أو غيره؛ ولذا جاز، والله أعلم.
----------------
[1] انظر: الفروع: (4/155)، المبدع: (4/135)، الإنصاف: (5/23)، الاختيارات:(128)، جلاء العينين: (643)، المستدرك: (4/17)، حاشية ابن قاسم: (4/502، 503).
[2] انظر: المغني: (6/91)، البرق اللماع: (116)، مواهب الجليل: (4/362)، أسنى المطالب: (2/29 - 30).
[3] انظر: أسنى المطالب: (2/29 - 30)، الغرر البهية: (2/425)، تحفة المحتاج: (4/290 - 291)، مغني المحتاج: (2/39)، نهاية المحتاج: (3/444)، حاشية الجمل: (3/66 - 67)، تحفة الحبيب: (3/26 - 27)، التجريد لنفع العبيد: (2/204).
[4] انظر: الإنصاف: (5/23)، شرح الزركشي: (3/449)، المغني: (6/91).
[5] يأتي إسناده عن أبي بكر وابن عباس قريباً.
[6] انظر في سنده عنه: سنن الدارقطني: (3/71)، كتاب البيوع برقم ( 266)، وسنده صحيح عنه، كما أخرجه مالك: 454)، كتاب البيوع، باب بيع اللحم بالحيوان (1353) سنن البيهقي: ( 5/297)، كتاب البيوع، باب بيع اللحم بالحيوان. وانظر للاستزادة في الآثار عن الفقهاء السبعة وغيرهم:شرح السنة: ( 8/76، 88)، التمهيد: (2/317)، (4/326 - 329)، المحلى: ( 8/517)، المغني: (6/90)، نصب الراية: (4/39)، فقه الفقهاء السبعة: (1/587).
[7] انظر: شرح السنة: (8/77)، التمهيد: (4/325)، الكافي لابن عبدالبر: (2/651)، فقه الفقهاء السبعة: (1/588).
[8] انظر: المنتقى: (5/24 - 25)، مواهب الجليل: (4/361)، حاشية الخرشي: (5/68)، الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: (2/77)، حاشية الدسوقي: (3/54 - 55)، منح الجليل: (5/27 - 28)، حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني: (2/171).
[9] انظر: المغني: (6/90)، الكافي: (2/62)، الفروع: (4/155)، الإنصاف: (5/23)، تصحيح الفروع: (4/156)، المبدع: (4/35)، الروض المربع: (4/502، 503، 521، 522)، كشاف القناع: (3/255)، شرح الزركشي: (3/448).
[10] انظر: المبسوط: (12/181)، بدائع الصنائع: (5/189)، تبيين الحقائق: (4/91)، شرح العناية: (7/25 - 26)، شرح فتح القدير: (7/25 - 26)، البحر الرائق: (6/144)، مجمع الأنهر: (2/87).
[11] انظر: المحلى: (7/468، م 1507).
[12] انظر: إعلام الموقعين: (2/144 - 146) .
[13] انظر: الموطأ: (454)، كتاب البيوع، باب بيع الحيوان باللحم، رقم (352).
[14] السنن الكبرى: (5/296)، كتاب البيوع، باب بيع اللحم بالحيوان.
[15] سنن الدارقطني: (3/71)، كتاب البيوع (266)، وأخرجه أيضاً البغوي في شرح السنة: (8/76)، والحديث حسنه الألباني في الإرواء: (5/198).
[16] انظر: المغني: (6/91).
[17] إعلام الموقعين: (2/145).
[18] انظر: سنن البيهقي: (5/296).
[19] انظر: سنن الدارقطني: (3/71).
[20] انظر: التعليق المغني على الدارقطني: (3/71)، نصب الراية: (4/39)، التلخيص الحبير: (3/10).
[21] نيل الأوطار: (5/230).
[22] انظر: المحلى: (7/468، م 1507).
[23] انظر: إيثار الإنصاف: (293).
[24] حلية الأولياء: (6/334)، سنن الدارقطني: (3/71)، كتاب البيوع رقم (265).
[25] انظر: التلخيص الحبير: (3/10)، إرواء الغليل: (5/198).
[26] انظر: تفرد به يزيد بن عمرو البزاز وهو كذاب كما قال ابن معين. انظر: التعليق المغني: (3/71)، نصب الراية: (4/39)، إرواء الغليل: ( 5/198).
[27] انظر: التمهيد: (4/322 - 323).
[28] انظر: إعلام الموقعين: (2/146).
[29] كشف الأستار: (2/86)، رقم (1265)، كتاب البيوع.
[30] ثابت بن زهير أبو زهير البصري، روى عن الحسن ونافع، قال أبو حاتم: منكر الحديث .انظر: الجرح والتعديل: ( 2/452)، ميزان الاعتدال: (1/364) كتاب المجروحين لابن حبان (1/206)، الكامل لابن عدي: (2/521)، لسان الميزان: (2/76)، التلخيص الحبير: (3/10)، نيل الأوطار: (5/230)، مجمع الزوائد: (4/108)، إرواء الغليل: (5/198).
[31] انظر: إعلام الموقعين: (2/149).
[32] المستدرك: (2/41)، كتاب البيوع، رقم (2251/122).
[33] انظر: التاريخ الكبير: (2/289)، حلية الأولياء: (2/131)، سير أعلام النبلاء: (4/563)، تهذيب التهذيب: (2/263)، الخلاصة: (1/210)، لسان الميزان: (2/199).
[34] انظر: التلخيص الحبير: (2/10)، إرواء الغليل: (5/198)، نصب الراية: (4/39).
[35] سنن البيهقي: (5/297)، كتاب البيوع، باب بيع اللحم بالحيوان.
[36] انظر: نصب الراية: (4/39).
[37] انظر: المبسوط: (12/181).
[38] الأثر أخرجه الشافعي في الأم بإسناد سكت عليه ابن حجر في التلخيص. انظر: الأم: (8/176) شرح السنة: (8/76)، سنن البيهقي: (5/297)، مصنف عبدالرزاق: (8/27) يرقم (14165)، التلخيص الحبير: (3/10)، نيل الأوطار: (5/230)، وأثر أبي الزناد: أخرجه البيهقي: (5/297)، كتاب البيوع، باب بيع اللحم بالحيوان.
[39] انظر: نيل الأوطار: (5/230)، اختيارات ابن القيم: (1/289).
[40] انظر: المبسوط: (12/181).
[41] انظر: المغني: (6/91).
[42] انظر: تصحيح الفروع: (4/156)، بدائع الصنائع: (5/189- 190).
[43] انظر: تصحيح الفروع: (4/156)، مواهب الجليل: (4/349، 360 - 361)، الفروع: (4/154)، الإنصاف: (5/18)، كشاف القناع: (3/255)، مطالب أولي النهى: (3/161)، منح الجليل: (5/8).
[44] سبق تخريجه ص: (568).
[45] انظر: طريقة الخلاف للأسمندي: (311)، المغني: (6/90)، تبيين الحقائق: (4/91- 92).
[46] سورة البقرة: الآية (275).
[47] انظر: المبسوط: (12/181)، بدائع الصنائع: (5/189).
[48] انظر: بدائع الصنائع: (5/189).
[49] انظر: إعلام الموقعين: (2/146)، الشرح الممتع: (8/405).
[50] انظر: الإفصاح: (1/324)، بدائع الصنائع: (5/189)، الكافي: (2/57)، الفروع: (4/154)، تصحيح الفروع: (4/156)، الإنصاف: (5/18)، كشاف القناع: (3/255)، منح الجليل: (5/8).