آلام القلوب الرقيقة ..
20 صفر 1435
د. خالد رُوشه

لا زال الناس يمتدحون القلوب الرقيقة , ولا زال الشعراء والكتاب يتحدثون عن فضائل الرقة في القلوب وكيف أن أصحابها هم أرقى الناس مكانة وأرفع الناس قدرا .

 

 

بل إن الإسلام قد مدح كل قلب رقيق , وذم القلوب القاسية , ففي كتاب الله سبحانه قوله تعالى " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو اشد قسوة "

 

 

وحق لكل قلب رقيق أن يمتدح , فالقلوب الرقيقة هي الأكثر قربا إلى الله سبحانه و والأكثر تأثرا بالموعظة والتذكرة , والأقرب إلى الندم على ما فات والأقرب بالبكاء من خشية الله , والأكثر شعورا بالفقراء والضعفاء والمرضى وذوي الشكوى , وهي الأرفق بالناس في المعاملات والتصرفات , وهي الأكثر استمساكا بالقيم العليا والمبادئ السامية , بل إن الله سبحانه قد وصف نبيه بالرقة والرفق والرحمة فقال سبحانه : " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك "

 

 

والله سبحانه قد لفت المؤمنين إلى تلك المعاني فيما يخص القرب منه سبحانه والعودة إليه عز وجل , وكأن الآيات تنبهنا إلى أن القلوب الرقيقة هي الخاشعة وهي المنيبة له سبحانه وهي صاحبة الرجاء في القبول عنده عز وجل فقال سبحانه :" ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون "

 

 

بل إن الآيات تعلمنا أن القسوة قد تقع من المسلمين أيضا ومن أهل الإيمان في لحظات مختلفة , وأن أهل الإيمان يتفاوتون في رقة القلب وقسوته , وأن النصيحة برفق القلب هي نصيحة لازمة للمؤمنين , وأن تحذيرهم من قسوة القلوب لازم مهم
ذلك بعكس القلوب القاسية والفظة , فهي لا تبالي عادة بالضعفاء , ولا تتأثر بالمواقف المؤلمة و ولا تكاد تشعر بآلام الآخرين , كما أنها بين يدي الله سبحانه متحجرة , لا تتأثر بالتذكرة ولا بالموعظة .

 

 

  

وهل اشتكت الأرض إلا من غلظة القلوب , وهل تدنست مشارقها ومغاربها إلا من الأفظاظ الجلادين الذين لا يبالون بصرخات الضعفاء ؟!  , بل إن قسوة القلوب تكاد أن تكون شرطا لكل من أراد أن يمارس الإجرام أو الظلم أو الجور , فالقلوب الرقيقة لا تقوى على الظلم ولا تهدأ مع الأذى , ولا ترتضي الإضرار .

 

 

لكن حالة مضادة لكل معقول ومعاكسة لكل مقبول تكاد تحدث في مجتمعاتنا اليوم , فقد صار رغد العيش وسكون البال وصفا لأصحاب القلوب القاسية الفظة , فهم اليوم الذين ينامون ملء جفونهم , وهم اليوم الذين ينجحون في جمع الأموال , وتبوء المناصب الكبيرة , وهم الذين يخرجون من المشكلات بكل هدوء وبرود ! إنها معضلة فكرية وحالة متناقضة بين وصف الخير والصلاح وبين نتائج الواقع المرير !

 

 

لاشك أن هناك نفوسا رقيقة وقلوبا رفيقة تتصف بالرصانة والهدوء والسكينة في مواجهة المواقف , وليس عن هذا حديثي فهؤلاء قد منّ الله عليهم بفضل ونعمة , مع تمتعهم بالإيمان وصفات القلوب الرقيقة و وهؤلاء من أفاضل الناس وخيرتهم , بل إن منهم الصحابي الجليل الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم قائلا :" إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله , الحلم والأناة "

 

 

لكنني أتحدث عن هؤلاء القساة العصاة الذين وجدوا بغيتهم في مجتمعات لا تأبه للفضائل في مقابل المصالح , بل تدعو إلى المصلحة الذاتية والشخصية والحزبية , أتحدث عن هؤلاء القساة الذين يقر لهم نوم هادئ بين صرخات الثكالى وأنات المكلومين وشكاوى المظلومين , أتحدث عن هؤلاء الذين يستطيعون إسكات ضمائرهم عن المظالم من حولهم وعن ضياع الحقوق وعن الضرر والإضرار مادام ذلك لم يمسهم ولم ينتقص من مصالحهم أو يقترب من الإضرار بهم , أتحدث عن هؤلاء الذين يزنون الحياة بميزان واحد فقط هو ميزان مكاسبهم المادية , ويديرون ظهورهم لكل ما يعوقهم عن تلك المكاسب مهما كانت فضيلة أو مكرمة بل مهما كان واجبا أو حقا  !

 

 

إن القضية مبادئية من الأساس , فمجتمعاتنا التي بدأت تتخلى عن مبادئها وقيمها هي التي سمحت بهذا العفن أن ينمو بين جنباتها , وهي التي غذت تلك الروح النفعية البغيضة , وهي التي ساندت أصحاب المصالح مادامت مشتركة , وهي التي أغفلت صرخات المكلومين , فصار الناس يرون أصحاب القلوب الرقيقة غير قادرين على الإنجاز والنجاح لبذلهم وعطائهم وحملهم هموم غيرهم في حين يرون الجامدين القساة هم المنصبون في المقدمة .

 

 

إننا بحاجة إلى إعادة القيم الحقة إلى نصابها , وبحاجة إلى رؤية الحق حقا والباطل باطلا , وبحاجة أن نرفع شأن الخير والصلاح والإصلاح , وأن نجتمع سويا على خزي الشر والسوء والقيم الخربة فنعلن سقوطها ورفضها , وإلا فنحن أمام خطر عظيم !