أنت هنا

مقاومة العدوان على الأمة
19 صفر 1435

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ

 

وبعد فهذه ورقة تمهيدية لهذا المحور من موضوع مؤتمركم الكريم (مقاومة العدوان على الأمة) أريد بها بيان مدلول هذا العنوان والمراد به، ثم بيان درجات تلك المقامة ومجالاتها، فنسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل وأن ينفعنا بما نسمع ونقول:

 

مفهوم مقاومة العدوان على الأمة
المعنى اللغوي
المقاومة لغة مفاعلة من القيام ومعناها المدافعة والمغالبة قال الجوهري (قاومه في المصارعة وغيرها. وتقاوموا في الحرب، أي قام بعضهم لبعض.)(1) وقال الخليل (قاومته في كذا أي : نازلتُه)(2)

 

وأنشد ابن سيده قول مِسْكين الدَّارميّ
ومُخاصِمٍ قاوَمتُ في كَبَدٍ *** مِثل الدِّهانِ فكانَ لِي العُذرُ
يعني انه قاوم هذا المخاصم في مكان يزلق عنه من قام به، فثبت هو وزلق خصمه(3).

 

وذكر الزمخشري في أساس البلاغة أنه (قيل للمخبّل: قاوم الزبرقان فقال : إنه أندى مني صوتاً وأكثر مني ريقاً وإني لا أقوم له في المواجهة ولكن دعوني أهاديه الشعر من وراء وراء)(4)

 

والاعْتداءُ والتَّعَدِّي والعُدْوان الظُّلْم قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] يقال عَدَا عليه عَدْواً وعَدَاءً وعُدُوّاً وعُدْواناً وعِدْواناً وعُدْوَى وتَعَدَّى واعْتَدَى كُلُّه ظَلَمه وعَدَا بنُو فلان على بني فلان أَي ظَلَمُوهم(5)

 

والأُمَّةُ الجماعة(6) و"الأُمَّةُ" أَتْبَاعُ النبي والجمع "أُمَمٌ" مثل غرفة وغرف(7) وأُمَّةُ كل نبي مَن أُرسِل إِليهم(8) والمراد بهم هنا أمة الإجابة.
المعنى التركيبي (المصطلحي)

 

يمكن إذن أن نعرف مقاومة العدوان بأنها "كل فعل أو قول يقوم به أهل الإسلام للذب عن دينهم ودمائهم وأرضهم وعدمُ قبول الضيم والاستسلامِ للعدو".
وضدها الذل والهوان والضعف والاستكانة وكلها مذمومة شرعا وطبعا، قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران:146].

 

وقد جعل الله الذلة والصغار عقوبة لبني إسرائيل فقال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}  [آل عمران:112].

 

مراتب مقامة العدوان

يمكن تلخيصها في أربع مراتب يندرج فيها أغلب وسائل المقامة
1-    أولها التزيُّل عن العدو فإن من أعظم أسباب مقاومة الحرب الفكرية والعقدية التي يقوم بها أعداء الإسلام على الأمة التميز عن أعداء الله رسوله من الكفار والفاسقين وعدم مساكنتهم إلا لضرورة فإن كثرة المساس تذهب الإحساس والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:68] والنصوص في ذم المقام ببلاد الكفر والفسوق ووجوب الهجرة أشهر من أن تذكر،
وقد أثبتت التجربة أن الذين يعيشون في بلاد الكفر من شباب المسلمين يتأثرون بعقائد وأديان البلدان التي عاشوا فيها إلا من رحم الله، بل إن بعض الدعاة والمفكرين الإسلاميين أورثتهم تلك المساكنة والمعايشة تحررا من الثوابت وجرأة على النصوص والمحكمات الشرعية فما الظن بغيرهم.
ومن لم يستطع الهجرة من بلاد الكفر وأهلِ الفسوق أو اضطر إلى الإقامة بين ظهرانَيهم فلا بد أن يستحضر وجوب البراءة من الأعداء وبغضهم في الله وعدم موالاتهم وعدم التشبه بهم قال الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].

 

2-    ثانيها الصدع بالحق والتكلم به في المجالس والأندية وعلى المنابر وفضح مخططات الأعداء مهما كانت التحديات ومهما كان الثمن؛ فإن من أهم أهداف أعداء الأمة تكميم الأفواه وتغييب الحق عن الناس لا يسمعونه ولا يرونه وترسيخ مفاهيم المدنية الغربية بترويجها في وسائل الإعلام لتفرض على الناس فرضا ويستسلموا لها من حث يشعرون ومن حيث لا يشعرون
ويشمل ذلك إقامة الندوات وتنظيم المؤتمرات وإنشاء وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة لتعريف الناس بدينهم وتبصيرهم بمكائد أعدائهم والحرصَ على استعمال  المصلحات الشرعية في الخطاب فنحن اليوم نواجه حربا في الأسماء والمصطلحات فما نسميه نحن جهادا ومقامة عدوان وحرب تحرير يسميه العدو إرهابا وجرائم حرب، وما نسميه عدوانا واحتلالا وقتلا للأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال يسميه استعمارا وحربا على الإرهاب ودفاعا عن الأمن القومي ونشرا لقيم الإنسانية، ومن هنا تتبين أهمية وسائل الإعلام والمنابر في إشاعة المصطلحات وترسيخ معناها وترويجها أو تحريفها وتشويها
وقد غاب من إعلامنا اليوم ألفاظ شرعية كثيرة كالفظ (الكفار) و(النصارى) و(الجهاد في سبيل الله) بل غابت من المنابر وأفواه كثير من الخطباء، وكلما هجم الأعداء على مصطلح شرعي أو مبدأ عقدي أو حكم قطعي رأيت من كتابنا من يسوغ التنازل عنه ويفتش في الأقوال الشاذة والروايات الضعيفة عما يؤيد انهزاميته، ألم يسمعوا قول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الهف عليه وسلم: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:8-9] وقوله: )وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء:74-75] لقد أخبر الكبير المتعال العليم الحكيم عن هؤلاء الكافرين الذين يسعون جاهدين لفتنة المسلمين عن شريعتهم أنهم لا يعلمون فقال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الجاثية:18/19].

 

3-    ثالثها الجهاد في سبيل الله والدفاع بالقوة العسكرية {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] وذلك بإعداد المستطاع من وسائل القوة والدفاع لإخراج العدو من بلاد المسلمين المحتلة ودفع الغزاة الذين يسعون لاحتلال ما ليس منها تحت السيطرة العسكرية المباشرة، فلا قيام للحق إلا بقوة تدفع عنه وعدة تحميه {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}  [الحديد:25].
وقد نصت المواثيق الدولية على حق الشعوب والدول في مقامة العدوان والتصدي له
جاء في المادة الحادية والخمسين من ميثاق الأمم المتحدة (ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء "الأمم المتحدة")
وجاء في إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة الذي اعتمد بموجب قرار الجمعية العامة 1514 سنة 1960 المواد الآتية:
•    ان اخضاع الشعوب لاستعباد الأجنبي وسيطرته واستغلاله يشكل انكارا لحقوق الانسان الأساسية، ويناقض ميثاق الأمم المتحدة، ويعيق قضية السلم والتعاون العالميين.
•    لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها؛ ولها بمقتضى هذا الحق ان تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية الى تحقيق انمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
•    كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة القومية والسلامة الاقليمية لأي بلد، تكون متنافية ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه.
•    تلتزم جميع الدول بأمانة ودقة أحكام ميثاق الأمم المتحدة، والاعلان العالمي لحقوق الانسان وهذا الاعلان على أساس المساواة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لجميع الدول، واحترام حقوق السيادة والسلامة الاقليمية لجميع الشعوب.
لكن هذا كله لا يعدوا كونه كلاما لذر الرماد في العيون وخديعةً للشعوب الضعيفة التي تَحتل أوطانها وتنهب خيراتِها الدولُ الكبرى فنحن في عالم يأكل فيه القوي الضعيف ولا يحترم إلا منطق القوة، يقول شيئا ويفعل شيئا آخر، وصدق من قال:
تجمعتم من كل شعب وأمة *** ولون لحفظ السلمِ هل حفظ السلمُ
وهل رفع الحق الذليل جبينه *** وهل نحن بتنا لا يروعنا الظلمُ
أماني كالأحلام زخرفها الكرى *** وقل علي الأيام أن يصدق الحلم
سمعنا كلاما لذّ في السمع وقعه *** ورب لذيذ شاب لذّته السّمُ
أرى الدول الكبرى لها الغُنم وحدها *** وقد عادت الصغرى على رأسها الغرم
متى عفت الذئبان عن لحم صيدها *** وقد أمكنتها من مقاتلها البهم
ألا كل أمة ضائع حقها سدا *** إذا لم يؤيد حقها المدفع الضخم

 

4-     رابعها وحدة الصف واجتماع الكلمة والتعالي على الخلاف وتماسك الجبهة الداخلية {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46]، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] وقد علم من حقائق الشرع ووقائع التاريخ أن العدو الخارجي لا يتمكن من هزيمة الأمة إلا بتفريق كلمتها واستغلال خلافها لضرب بعضها ببعض، أخرج مسلم في الصحيح عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربى لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربى قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبى بعضهم بعضا».

 

وكل حزب وكل جماعة تحدث عن الوُحدة والجماعة وخطر الخلاف والفُرقة ولكن الذين يعملون شيئا في الواقع وينجحون في الميدان قلة، وإنما العبرة بالأفعال لا بالأقوال
إذا نصبو للقول قالوا فأحسنوا *** ولكن حسن القول خالفه الفعل
ولا تستطيع جماعة اليوم - مهما كان شمول منهجها وقوة نشاطها-  القيام بجميع ما يلزم لمقامة العدوان على الأمة فإن العدو يحارب بإمكانات ضخمة وتقوم وراء تلك الحرب مراكز بحث ودراساتٍ إستراتيجيةٍ ودولٌ كبرى بل اتحادات دولية وأممية فكيف نريد مقامتها ونحن مشتتون ممزقون!.

 

وإني لأزعم أنه لو نزع من خلافات الجماعات والحركات والأحزاب الإسلامية اليوم المطامع المادية ونزوات النفس البشرية في حب الرياسة والحزازات الشخصية بين بعض الأفراد لأمكن الاجتماع على كثير من الأهداف وتجنب كثير من الخلاف وتوحيد الجهود والتكامل في مجالات متعددة.

 

_______________________

(1)    الصحاح مادة واللسان مادة (قوم)
(2)    كتاب العين (قوم)
(3)    المحكم لابن سيده (دهن)
(4)    أساس البلاغة (وري)
(5)    اللسان مادة (عدا)
(6)    مختار الصحاح (أمم)
(7)    المصباح المنير (أمم)
(8)    اللسان مادة (أمم)