أنت هنا

ما تبوح به الأزمة الأوكرانية
15 صفر 1435
موقع المسلم

الصورة ذاتها، والأشكال تكاد تتطابق إلا في فروق ما بين السحنة القوزاقية والعربية.. "النشطاء" هم كلمة السر.. مجموعات شبابية ناشطة، جرى تدريبها بعناية بعضها في العشرينات من العمر، لها علاقات وثيقة جداً مع نافذين في البرلمان الأوروبي، تلفت النظر بحماستها وقدرتها العالية على الحشد عبر صفحات التواصل الاجتماعي، تحرص على تمييز ذاتها عن المعارضة التقليدية، وتتقدم ذاتها كبديل لا نمطي للتغيير.. عندما سئل أحدهم وهو ألكسندر فرولو عن رد فعلهم إذا ما هاجمهم أنصار الرئيس، قال: "احتجاجاتنا سلمية تماماً، لذلك لا مكان بيننا للعنف. إذا هاجمنا طرف آخر فسندافع عن أنفسنا" (هم جاهزون بالمولوتوف إذا استدعى الأمر)، لو شاهدتهم لما وجدت اختلافاّ جذرياً عن نظرائهم في حركة 6 إبريل المصرية أو 20 فبراير المغربية.. الخ
هؤلاء يحركون عشرات الآلاف وربما المئات في قلب العاصمة كييف، مطالبين السلطات بالتوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، بينما تطالب المعارضة التي انخرطت في التظاهرات وآثرت أن تكتفي برفع الأعلام الأوكرانية والأوروبية بدلاً من أعلامها "خجلاً" من منظمي التظاهرات أنفسهم أو حرصاً على اللحمة الوطنية المعارضة؛ بهذا المطلب علاوة على إجراء انتخابات مبكرة، وهو المطلب الذي قد يرفعه "النشطاء" لاحقاً..
يبدو إذن الوجهة العامة للمظاهرات هي الاتجاه غرباً، تدعمها الولايات المتحدة بقوة، والاتحاد الأوروبي الذي أوفد بعض نوابه ليسمع مباشرة من المتظاهرين، حيث اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والتي كان يتوقع أن ينجم عنها اختراقاً أوروبياً يصل إلى تخوم "الامبراطورية" الروسية إن لم يقتنص ضابط الاستخبارات السابق، فليدامير بوتين رجل روسيا القوي وزعيمها الفرصة، ويوقع اتفاقية للتعاون مع أوكرانيا يتعهد فيها بشراء سندات أوكرانية بقيمة 15 مليار دولار، ويخفض سعر الغاز الذي يصدره لكييف بمقدار الثلث مع ضمان تدفقه لبلد لا يمكنه الاستغناء عن الغاز الروسي بحال..
المعركة مع هذا لم تنته، وينتظر أن يصعد الأوروبيين من وتيرتها عبر عملائهم في قلب الحراك الشعبي بميدان الاستقلال "الوهمي" في كييف، والوهم عائد ـ بالمناسبة ـ إلى أن العاصمة الأوكرانية كانت تفاضل بالاقتصاد بين طرفي الصراع، وليس لها إلا أن تختار التنازل عن شيء من "سيادتها" للروس أو الأوربيين، وهي تفعل، لكن على نحو لا يرضي العواصم الغربية؛ فجهزت الأخيرة "النشطاء" و"الثوار"..
المعركة لم تنته، لكن يمكن أن يستشف منها أن مفاهيم الديمقراطية والحرية والاستقلال لدى الغرب ما هي إلا أدوات للهيمنة ليس إلا، وأن كل هذه "المبادئ" يمكن إعادة تدويرها لتصبح مصالح وأوراق يمكن التلاعب بها والتنازل عن بعضها إذا ما تعارضت مع مصالح أخرى أكبر..
ما يستنتج أيضاً، أن الغرب يعلم جيداً ماذا يصنع بالدول التي تشهد اضطرابات، وهو ليس غائباً عن سبر أغوارها، لكنه يضبط درجات انفعاله بحسب ما يتراءى له من مصلحة، وهو حين يدرب "نشطاء"؛ فليس رجاء أن تنتشر الديمقراطية بل لتتعزز الهيمنة.. وليست أوكرانيا نموذجاً فريداً في هذا..
ما يرشح من صورة الصراع هو أن الشعوب تتوق إلى مزيد من الحريات بالتأكيد، لكن توقها أكبر للخبز والدفء، وقد تقبل بالتنازل عن شيء من "مبادئها" من أجل إرواء ظمئها لمعيشة مادية أعلى، لاسيما في دول أوروبا الشرقية وما يجاورها..
يمكن مع كل هذا اتخاذ الحالة الأوكرانية ككاشف لما نراه في عالمنا الضيق..