السؤال الصعب في السعودية
29 محرم 1435
أمير سعيد

قليلاً ما تأتي التغييرات الاستراتيجية في التوقيت الأفضل لكل اللاعبين الإقليميين؛ فرياح التحالفات الجديدة التي أفرزتها وستفرزها الاتفاقية الجديدة التي وقعتها دول مجموعة 5+1 (الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا) مع إيران لم تأت بما تشتهيه معظم السفن العربية.

 

الخليج أكثر تلك الأطراف التي لم تستقبلها بارتياح، وإن كان احتفظ بلغة دبلوماسية للتعليق على الاتفاق القاضي بتخفيف العقوبات المفروضة على إيران في مقابل تقييد "مؤقت" لجزء من برنامجها النووي، عبر عنها مجلس الوزراء السعودي بالقول إن "حكومة المملكة ترى بأنه إذا توفرت حسن النوايا، فمن الممكن أن يشكل هذا الاتفاق خطوة أولية في اتجاه التوصل لحل شامل للبرنامج النووي الإيراني".

 

فماذا لو لم "تتوافر حسن النوايا"؟ ولدى من؟!
لنعد بالأمر إلى أوله، فالاتفاق ما يتدلى منه تحت الطاولة أعلى مما هو أعلاها، والجنرال المتقاعد مايكل هايدن، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA، أعلنها صريحة لشبكة فوكس اليمينية الأمريكية: "لقد قبلنا في الواقع قيام إيران بتخصيب اليورانيوم"، مخالفاً المعلن من الاتفاق ولكلام وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، ولم يستنكف أن يبوح بما يتوارى منه الساسة الرسميون حين قال: "لقد ضغطنا (بموجب الاتفاق النووي) على زر التوقف، والآن علينا التفاوض كي نضغط على زر الإلغاء"! بيد أن أحداً في الخليج ولا ببقية بلاد العرب لم يعد يطمئن إلى صلابة الأصبع الأمريكية الضاغطة على زر التوقف، والأشد خطورة هو في مقابل هذا "الانجاز" الوهمي، الذي يفترض أن إيران قد جنته من وراء هذا الاتفاق.

 

لسنا بحاجة للبحث كثيراً فيما بين سطور الاتفاق، فالغرب قد منح إيران صراحة فرصة لانتعاشة اقتصادية كبيرة جراء رفع عقوبات كثيرة تمس قطاع النفط، وسينعكس ذلك بالتبعية على رفع قدرة طهران على مساندة حليفها السوري بشار في سعيه للاحتفاظ قهراً بالسلطة، وعلى تقوية ميليشيات الحوثيين في اليمن، ومضاعفة قدرات "حزب الله" على بسط هيمنته على لبنان، وبخاصة بعد أن بسطت واشنطن لـ"حزب الله" رداءها بلبنان حين أجرت معه مفاوضات سرية بخصوص ترتيب أمن "إسرائيل" وتشكيلة الحكومة اللبنانية القادمة وفقاً لما عزته صحيفة وورلد تربيون الأميركية لمصادر خاصة.

 

الخليج، وإن جاءته إشارة إيجابية واحدة عبر "تسكين" الاضطرابات التي اندلعت في البحرين في فبراير 2011، واستمرت لأكثر من عام قبل التفاهم الأخير على تحويلها إلى "حركة إصلاحية هادئة" في مقابل تقليل الدعم الذي تتلقاه الثورة السورية، إلا أن هذا التسكين لا يفي لأمن الخليج بما يحققه بشكل كامل؛ فصحيح أن علاقة "الشراكة الأمريكية الخليجية" عميقة، بعمق آبار النفط، وتستند إلى أسس وقواعد راسخة، وتلتزم فيها الولايات المتحدة التي تفيد من سوق اقتصادية وعسكرية ضخمة بالخليج بتوفير الحماية للحلفاء، غير أن متغيرات اللحظة لا توفر الاطمئنان الكافي لصناع السياسة في دول الخليج؛ فـ"التفسير المتفائل هو أن الجمهورية الإيرانية ربما تكون في طريقها لكي تصبح أقل ثورية - أقل نشاطاً في دعمها للإرهاب، وأقل استعداداً للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وأقل التزاماً بأجندة معادية للغرب - وأن تتصرف بناء على مصالح الدولة وليس الحتميات الأيديولوجية" مثلما يقول پاتريك كلاوسون في مقاله "الإجماع الإيراني لا يعني بالضرورة اتفاقاً جيداً للغرب"، على أن هذا التفسير ليس هو الراجح بحسب الكاتب نفسه، ولا بحسب ما يتوفر لدينا من معطيات.

 

فالمتوقع أن تصل إيران بعد هذا الاتفاق، وهذا القبول والتطبيع الغربي إلى تأن تتبوأ مكانة في الخليج تفوق ما كانت عليه إبان حكم الشاه؛ فإطلاق يديها في دول الجوار دون إدانة أو إخضاع غربي، لهو عين ما يخشاه الخليجيون.
وإذا كانت السعودية هي الدولة الأكثر قوة وتأثيراً بالخليج العربي، وإليها تنتهي قيادة دول مجلس التعاون الخليجي؛ فإنها تجد نفسها مدعوة لإعادة قراءتها للمشهد برمته، لاسيما أن الولايات المتحدة بدت جانحة في إبرامها هذا الاتفاق دون العودة إلى "شركائها" بالخليج، ومتطرفة في "ثقتها" بطهران إلى حد منحها أكثر مما تطلبه، ربما، في هذا الاتفاق بشقيه العلني والسري.

 

"إذا توفرت حسن النوايا"، هكذا اشترط مجلس الوزراء السعودي في بيانه الذي سبقت الإشارة إليه، لتأييده هذا الاتفاق، لكن لنعد للسؤال ذاته.. نوايا من؟!
إنه، ولأول مرة، لا تصبح هذه الإجابة واضحة؛ فالحذر من عدم صدق النوايا لا ينسحب ـ هذه المرة ـ على طهران وحدها، بل قد تكون واشنطن معنية به أيضاً؛ فالعواصم العربية أصيبت بقدر من خيبة الأمل من تداعيات الاتفاق "الرومي/الفارسي" الأخير، وهو ما عبر عنه الأمير الثري الوليد بن طلال، الذي عبر عن مخاوف حقيقية للحد الذي جعله يعول على، بل يؤيد، ضرب "إسرائيل" لإيران، على الرغم من أن الأمير لا يعبر بالضرورة عن الرأي الرسمي للسعودية.

 

لكن قد يكون الحديث عن تأثير كبير للاتفاقية بين الغرب وإيران على مجمل العلاقات الأمريكية الخليجية، والسعودية بالتحديد مبالغاً فيه، بالنظر إلى متانة تلك العلاقات وعدم قدرة واشنطن على إزعاج حلفاءها في الخليج لدواعٍ استراتيجية كبيرة، إلا أن ذلك لم يعد يمنع الرياض من إعادة التفكير في خريطة التحالفات القادمة في المنطقة، والتي تتشكل بشكل دراماتيكي وسريع، لاسيما مع تحركات اللاعب الناشط في المنطقة، تركيا..

 

تركيا التي تتجه لإبرام اتفاق شراكة كبير مع موسكو، وتسعى لاستيراد نظم دفاع صاروخي صيني تناهضها واشنطن، وشجعت الاتفاق بين الغرب وإيران، وتفاوض كردستان العراق، وحكومة المالكي على اتفاقات لنقل النفط، وتؤثر بشكل لافت على الوضعين السوري والمصري، لم تزل خياراً استراتيجياً براقاً للتحالف مع العواصم الخليجية لاسيما مع الرياض، لتشكيل حلف إقليمي يكبح طموحات طهران التوسعية في المنطقة، ويعزز من فرص الشراكة الاقتصادية بين دول ذات امتداد ثقافي وحضاري مشترك لقرون ماضية.

 

ربما كان هذا خياراً متاحاً لضبط ميزان القوى في المنطقة، أو حتى للتلويح به أمام شراكة متوقعة ليس بين الغرب وإيران فحسب، بل ربما بين "إسرائيل" وإيران على غير ما تبوح به أكاذيب التصريحات "الإسرائيلية" الخادعة.. لكن يبقى السؤال الصعب: هل يمكن التفكير في حلف كهذا دونما النظر إلى الركن الثالث فيه، أعني مصر؟ ودون إغضاب الولايات المتحدة في الوقت عينه؟

 

واشنطن.. ما يستشف من سياستها الحالية هو حالة انكفائية إلى الداخل الأمريكي بعد الابتعاد التدريجي عن العراق وأفغانستان، واستسلامها لدور روسي صاعد في المنطقة، وهذا يدعو بالضرورة إلى تفكير جدي في الحذر من الاعتماد الكلي على نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة وثبات مواقفها؛ فالمؤكد أن واشنطن تتراجع دولياً، وأن نفوذها آخذ في التقهقر في مناطق عديدة، ربما ليس من بينها الخليج الآن، لكن من يضمن استمرار تشبثها بهذا النفوذ لوقت طويل؟!

 

واشنطن قد ترى مثلما يرى السفير جيمس إيف. جيفري، في مقاله لماذا يعارض بعض حلفاء الولايات المتحدة الاتفاق مع إيران، أن عليها أن تدفع في اتجاه تقوية "الحليف المصري" وهو هنا القيادة الحالية للنظام المصري، وذلك "بإيجاد وسيلة لتدفق المعدات العسكرية بشكل كامل إلى مصر، وهو حليف تحتاج إليه واشنطن بشدة، التعجيل من العمليات البيروقراطية البطيئة التي يمكن أن تعيق مبيعات الأسلحة ومساعدات مكافحة الإرهاب على الأرض إلى الشركاء الإقليميين الرئيسيين".. لكن هل هذا ما تراه أنقرة؟! بالطبع لا، فهي تعتقد أن عليها إعادة الرئيس محمد مرسي إلى سدة الحكم في القاهرة مجدداً لكي تؤسس لعلاقة قوية مع مصر، وهي ذهبت في هذا الاتجاه إلى منحى بعيد، بحيث لم يعد ممكنا لديها بحسب رئيس وزرائها إردوغان أن تحترم أبدا من صادروا إرادة شعبهم وانقلبوا على الديمقراطية، وفقاً لتصريحات الزعيم التركي.

 

هنا، في حال أرادت أنقرة والرياض أن تصبحا أكثر استعداداً للتحالف بينهما أن تحدثا اختراقاً في الجدار المصري، إن باتباع تركيا سياسة "براجماتية" تتجاوز طموحاتها في مصر، أو باقتراب الرياض من الموقف التركي، وهنا مكمن السؤال الصعب..

 

نحن إذن أمام توقعات تتعلق بتماسك العلاقات الخليجية الأمريكية، ثم تتعلق بمدى إمكانية إنشاء حلف يضم تركيا ومصر إلى جانب السعودية، واحتمالات استقرار مصر إن بخسران نظام الرئيس مرسي للمعركة تماماً أو ربحه إياها، أو دخول البلاد إلى نفق الفوضى لمدة طويلة..

 

المخطط السعودي لديه على طاولته هذه الاحتمالات، ولديه عدد محدد من الخيارات المتاحة، والوقت ليس وفيراً لانتظار الأسوأ؛ فكما قيل "إذا توفرت حسن النوايا"، وحسنها لا يأتي كثيراً في السياستين، الإيرانية والأمريكية، بل لدى الدولتين تصوريهما الخاصين لشكل وحدود الدولة السعودية، وما تمور به المنطقة لا يدعو للاطمئنان كثيراً لما ستؤول إليها الأوضاع بعد أن تكف مراجلها عن الغليان..