نشد الضالة في المسجد.
13 ربيع الأول 1437
معاذ بن عبدالله بن عبدالعزيز المحيش

ورد النهي عن نشد الضالة في المسجد، فعن بريدة رضي الله عنه أنه قال: جاء أعرابي بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، فأدخل رأسه من باب المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له" أخرجه مسلم(1)، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد وأن تنشد فيه الأشعار وأن تنشد فيه الضالة وعن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة" رواه أهل السنن (2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد الضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك" رواه الترمذي(3).وعن ابن سيرين قال : سمع ابن مسعود رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فأمسكه وانتهره وقال : [ قد نهينا عن هذا ] أخرجه عبدالرزاق(4)،وقال ابن العربي: ولا ينشد فيها الضالة إجماعاً (5).
ولكن اختلف الفقهاء في درجة النهي على قولين:
القول الأول: يكره نشد الضالة في المسجد، وإليه ذهب الحنفية (6) والمالكية(7) والشافعية(8) والحنابلة(9)، إلا أن الشافعية استثنوا المسجد الحرام؛ لأنه لا يمكن تملك لقطة المسجد الحرام فالتعريف فيه محض عبادة بخلاف غيره فإن المعرف فيه متهم بقصد التملك(10).
القول الثاني: يحرم ذلك، وإليه ذهب بعض الشافعية(11) والحنابلة(12).
والأقرب: أن إنشاد الضالة في المسجد مكروه؛ لما في ذلك من لغط وارتفاع للأصوات، وما ذكرته من صوارف النهي عن البيع في المسجد تجري هنا؛ لأن النهي عن إنشاد الضالة ليس أمراً تعبديا لا تعقل علته، بل هو معقول المعنى، فيقيد بعلته ويعطى حكمها وهي وجود اللغط وارتفاع الأصوات.
أما محل النهي فقد حصره المالكية وبعض الشافعية في رفع المنشد لصوته، وأما إن سأل جلساءه غير رافع لصوته فلا بأس بذلك؛ لأن سؤاله جليسه من جنس المحادثة، وذلك غير ممنوع ما لم يبلغ ذلك اللغط من الإكثار(13)،وأطلق الحنفية والشافعية والحنابلة النهي ولم يقيدوه بحالة من الحالات(14)،وبعض أهل العلم جعل محل النهي في إنشاده الضالة لنفسه، أما إن أنشدها لغيره فهو محسن؛ لأن الأول يطلب ماله، والآخر يطلب التخلي عن ماله(15)، وبعضهم جعل محل النهي فيما إذا ضلت الضالة خارج المسجد فإنه ينهى عن إنشادها في المسجد مطلقاً، أما إن ضلت داخل المسجد فيجوز إنشادها فيه بلا شغب(16).
والأقرب هو حصر النهي فيمن رفع صوته فيكره ذلك، ويكون حراماً إن أزعج أهل المسجد؛ لأن المقصود من النهي هو عدم التشويش على المصلين والمتعبدين، ومما يدل على تقرر هذا الأصل في أذهان الصحابة ما أخرجه البخاري(17) عن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
قال ابن حجر: قوله [ لو كنتما ] يدل على أنه كان تقدم نهيه عن ذلك، وفيه المعذرة لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفى مثله، قوله: [ لأوجعتكما ] زاد الإسماعيلي: [ جلدا ] ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع لأن عمر لا يتوعدهما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي اçـ(18)، والنهي عن إنشاد الضالة ليس من باب العبادات لتكون العلة تعبدية، بل هو من باب المعاملات، فالعلة فيه معقولة المعنى.
وأما استثناء الشافعية للمسجد الحرام فغير صحيح؛ لأن النهي ورد لمعنى في المسجد، وليس لمعنى في اللقطة، والله تعالى أعلم.

----------------------------------------
([1]) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد 1/398 برقم 569.
([2]) تقدم تخريجه.
([3]) تقدم تخريجه.
([4]) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه 1/441.
([5]) عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي 2/103.
([6]) انظر: حاشية ابن عابدين 2/523.
([7]) انظر: المنتقى 1/312، 6/141. شرح مختصر خليل للخرشي 7/72 - 73.
([8]) انظر: المجموع 2/141. تحفة المحتاج 2/168. مغني المحتاج 2/533.
([9]) الفروع 7/313. الإنصاف 6/298. كشاف القناع 4/216.
([10]) وبعضهم خصص ذلك بأيام الحج لاجتماع الناس فيه، وبعضهم جوز ذلك في المسجد النبوي والأقصى قياسا على المسجد الحرام. انظر: أسنى المطالب 2/492. فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب 3/610.
([11]) انظر: أسنى المطالب 2/492.
([12]) انظر: الفروع 7/314. الإنصاف 6/298.
([13]) انظر: المنتقى 1/312، 6/141. مواهب الجليل 7/42. شرح مختصر خليل لللخرشي 7/72 - 73. تحفة الحبيب على شرح الخطيب 3/280. أسنى المطالب 2/492. حاشيتا قليوبي وعميرة 3/121.
([14]) انظر: حاشية ابن عابدين 2/523. المجموع 2/141. تحفة المحتاج 2/168. مغني المحتاج 1/313، 2/533. الفروع 7/313. الإنصاف 6/298. كشاف القناع 4/216.
([15]) انظر: فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام 2/556.
([16]) انظر: العرف الشذي شرح سنن الترمذي 1/322. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام 2/557.
([17]) في صحيحه في كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المساجر 1/101 برقم 470.
([18]) فتح الباري 1/561. لكن رد عليه العيني في عمدة القاري 4/250 قائلاً: لا نسلم ذلك لأنه يجوز أن يكون ذلك باجتهاده ورأيه .