الثورات العربية.. "محلك سر"
30 ذو الحجه 1434
علا محمود سامي

المتتبع لمسار الثورات العربية يلاحظ ثمة تغييرات في بنية المسار الثوري ذاته، والذي أصبح في الكثير من جوانبه بمثابة الثورة المضادة لهذه الثورات، دون النظر الى أن هذا المسار يصب في مصلحة الدولة العميقة بكل روافدها، ويتماشى مع البوصلة التي تسير في اتجاهها مثل هذه الدولة.

 

وعلى الرغم من مرور أكثر من عامين على اندلاع الثورات العربية، إلا أنها لاتزال تحبو على الطريق بأقل من سرعة السلحفاة، إن لم يكن الارتداد بعينه، حتى الدول التي حققت فيها الثورات قدرا من أهدافها، أو كانت تشق طريقها لتحقيق جانبا منها، اذا بعض أنصار الحراك الثوري عبر تحالفات شتى يعمل في مسار آخر مضاد للثورات، لايوازيه في الاتجاه لسرعته الفائقة بشكل يفوق الأهداف الثورية ذاتها، ما جعل هذه الثورات ترتد على أعتابها، أو تمضي في غير مسارها، في أجواء من السعادة تغمر مدعي الثورة، وتهليل من قبل أركان الدولة العميقة باستعادة ما كانوا عليه من استبداد وفساد.

 

وربما يكون الحديث نظريا بعض الشئ، حتى اذا كان التطبيق اتضحت الصورة وبانت تفاصيلها ، وكشفت عن الكثير من الأقنعة التي كان يرتادها أصحاب الحريات، ودعاة منظمات حقوق الانسان، حتى صارت هذه الفعاليات بمثابة دكاكين سياسية ومقاهي لبيع المبادئ والشعارات،كما باع أصحاب الياقات الثورية مبادئهم في تحالف واضح مع قوى القهر والانحلال، تحت شعار أساسي ووحيد وهو قمع قوى الاسلام السياسي، كما يحلوا لهم وصف التيار الاسلامي.

 

وليس أدل على ذلك من حالات الارتداد الواضحة في جميع بلاد الثورات بلا استثنتاء، إذا أن الهدف العدائي بالأساس هو التيار الاسلامي، وفي سبيل قمعه واقصائه يمكن أن تباع المبادئ، بل يمكن أن يتشارك الجميع في الاقصاء ليس من العمل السياسي ولكن من الحق في الحياة، على نحو ما نرى ونسمع من مجازر تنال أبناء التيار الاسلامي في العديد من الثورات العربية، قصاصا من جماهيريتهم وشعبيتهم من ناحية، ونيلا من صعودهم السياسي الى سدة الحكم من ناحية أخرى.

 

ولنا عبرة في أنظمة الحكم القائمة حاليا في بلاد الثورات، فاما قد تعرض بعضها الى الانقلاب والسطو على الارادة الشعبية التي أفرزت رؤساء أو مجالس منتخبة أو دساتير مستفتى عليها، أو أن حالات التحالف بين دعاة الثورية وأركان الدولة العميقة يتمدد لخلع ما تبقى من حكومات اسلامية، تحت شعارات جوفاء بمواجهة قوى الظلام والرجعية.

 

وتحت هذا الشعار العريض تداس ارادة الشعوب تحت النعال، والغريب أن هذا الدوس يكون تحت شعارات براقة ارتدها قوى الاستبداد والظلام الحقيقي، أبرزها الدفاع عن الحريات وصون حقوق الانسان، بل والادعاء بأن ما تقوم به هذه القوى هو الثورة ذاتها، وأن ما سبقها من ثورة حقيقية كان هو الانقضاض على شرعية الحكومات القائمة في ادعاء باطل أجوف، يبصره أصحاب الحرية الحقيقيين، ويغض الطرف عنه كل من هو أعمى عن الحق والفضيلة.

 

الأخطر في التحالف بين أركان الدولة العميقة ودعاة الحراك الثوري هو الاستدعاء الأجنبي لوأد أهداف الثورة واستنساخها بثورات ذات مفاهيم اسبتدادية، حتى وإن ارتدى أصحابها أقنعة ثورية، وهو ما يظهر واضحا في دعم الحكومات الغربية للدولة العميقة في أطوارها الجديدة، وهو الهدف الرئيس الذي كانت تسعى اليه الدولة الغربية بأن تستنسخ الحكومات الاستبدادية التي كانت قائمة قبل الثورات بحكومات أخرى، يمكن أن تغير شكلها، ولكن لا ينبغي أن تتغير مضامينها واهدافها في أن تكون طيعة للغرب تأتمر بأمره، وتنتهي عن نواهيه، تراعي مصلحة الكيان الصهيوني، وتقف بالمرصاد للتيار الاسلامي، ولا بأس إن كانت هناك محاولات لإقصائه وتحجيمه إن لم يكن استئصاله، دون النظر الى أي مبادئ أو معايير ترفعها مثل هذه الدول الديمقراطية، التي تدعي الحرية، وتنادي بشعارات حقوق الانسان، الى غيرها من لافتات أصبحت صنما تأكله هذه الدول وأذنابها اذا جاعت وأرادت افتراس شعوبا أخرى غير شعوبها.

 

ولا غرو أن هذا السواد الحالك سيظل على حاله في بلاد الثورات الى أن يأذن الله للمخلصين من أبناء الأمة في الذود عن حرياتهم وحقهم الأصيل في انهاء التبعية والعيش في كنف أهداف الثورات، والتي أبرزها الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة، وما تتوق اليه الشعوب العربية من تحكيم الشريعة الاسلامية، على النحو الذي أفرزته الارادة الشعبية في بلاد الثورات، ما أصاب المستبدين الجديد بحالة من السعار ، داسو خلالها بأحط أقدامهم على رغبات الشعوب، وما أفرزته من نتائج تنير لهم طريق الحكم الذي يرتضوه لأنفسهم.
وإذا كان هؤلاء قد امتلكوا القوة، فان المناضلين الشرفاء يمتلكون قوة تفوقها، ليست بالضرورة قوة مادية ، ولكنها قوة العزيمة والإرادة والصمود، وهى قوة لا تقهر ، خاصة وأن التاريخ يسجل حاليا استماتة الأحرار في بلاد الثورات لنيل أهداف ثوراتهم المسلوبة، وإن لاقوا في ذلك عنتا وإيذاء، قد يكون أعلاه هو فقد الحياة.

 

غير أن الشرفاء يستعذبون ذلك في صمود منقطع النظير، وكأن لسان الحال ينطق أن الحرية حقا لابد أن تكون لها ضريبة، وأن هذه الضريبة رخيصة اذا ما قيست بالمبادئ والحفاظ عليها، وكأنه تاريخ جديد يسجله الشرفاء بدمائهم، وليس فقط بعروقهم، وهو الصمود الذي لم يقف عند شاب أو شيخ أو طفل أو إمرأة، ولكنه امتد الى الجميع، فالأحرار على مختلف أعمارهم وأنواعهم لايقبلون الضيم، ولايرتضون بحريات منقوصة، وهذه هى صفات الشرفاء، وشيم الثوريين.

 

وبهذه الروح يتواصل الصمود تطلعا الى أهداف الثورات العربية ، دون سلطات مؤقتة او معينة، لتعود ارادة الشعوب الى أصولها في أن يحكمهم من يعبرون عنهم، وليس من يفرض عليهم. والمؤكد أن الشعوب التي عرفت طريقها الى الحرية واستعذبت لقاءها كل غال ونفيس لم يعد أمامها طريق سوى طريق الثورة لتعيش في عزة وإباء.