سر زيارة كيري لمصر
1 محرم 1435
د. عامر الهوشان

رغم تكرار التنبيه القرآني للمسلمين من مكر اليهود والنصارى بهم , ورغم إعلانه عداوة هؤلاء للمسلمين منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحتى قيام الساعة بقوله تعالى : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } البقرة/120 , ورغم تنبيه القرآن المسلمين من اتخاذ هؤلاء أولياء أو حلفاء بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } المائدة/51 .
ورغم تكرار الحوادث القديمة والمعاصرة التي تؤكد تأصل تلك الكراهية وذلك الحقد الدفين في نفوس أمريكا والغرب عموما على دين الله تعالى والمتبعين له , إلا أن بعض العرب والمسلمين ما زال يراهن على إمكانية التقارب والمودة بل والتحالف معهم على حساب الطرف الآخر المخالف في الرأي من المسلمين , وذلك باسم السياسة حينا وباسم المصالح الوطنية والقومية حينا آخر .
وإن من يقلب صفحات التاريخ الحديث لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية مع ما سمي بالربيع العربي - بعد أن كانت داعمة لحكومات تلك الدول - يمكنه أن يلحظ بسهولة سياسة زرع الفتن وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والخلافية بين أفراد وأحزاب وجماعات تلك الشعوب , بل ومحاولة وأد وإحباط أي محاولة تسعى لرأب صدع الخلاف السياسي أو المذهبي الحاصل بين أبناء البلد الواحد بل والدين الواحد .
ولعل القارئ الكريم على علم بمخطط أمريكي صهيوني مشهور لتقسيم البلاد العربية والإسلامية إلى دويلات على أساس طائفي أو مذهبي أو عرقي , ألا وهو مخطط برنارد لويس (الشرق الأوسط الجديد) الذي اعتمد سرا بشكل رسمي من قبل الكونغرس الأمريكي وبالإجماع في عام 1983م .
والذي يدقق في مواقف الولايات المتحدة الأمريكية مما يحدث بمصر منذ ثورة يناير 2011 يمكنه استنتاج تلك السياسة الخبيثة دون عناء , فقد أيدت حكم مبارك طيلة ثلاثين عاما رغم الانتهاكات الجسيمة لمبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة التي ترفعها الولايات المتحدة الأمريكية كشعار لحكومتها , فلما قال الشعب المصري كلمته في 25 من يناير تخلت عنه وتظاهرت بالوقوف مع إرادة الشعوب .
ولما جاءت الإنتخابات النزيهة بمحمد مرسي رئيسا لمصر تظاهرت الولايات المتحدة الأمريكية بتأيديها ومباركتها لهذه النتيجة , بل وتظاهرت برضاها عن وصول أحد أتباع جماع الإخوان المسلمين للحكم لتشيع بأن تحالفا تم بينهما , إلا أنها مع ذلك كانت تعمل بالخفاء لوأد طموحات الرئيس الجديد في النهوض بمصر واستقلالها سياسيا وماديا عن هيمنة أمريكا والغرب عموما , فعملت على إظهاره بمظهر الفاشل أو العاجز عن إدارة البلاد , من خلال اختلاق أزمات اقتصادية وسياسية تمس أمن المصريين وحاجاتهم المعيشية اليومية , بمساعدة بعض الفلول والدولة العميقة .
ولو أن الأمر توقف على إخراج مرسي من الحكم لكان الأمر أهون من زرع الفتنة بين أبناء الشعب المصري الواحد , فقد عملت أمريكا مع الدولة العميقة والفلول وبمساعدة الإعلام طبعا على شيطنة الإخوان وكل مؤيد لهم ولمرسي , وزرع الكراهية ضدهم , وبث الشائعات بتخوينهم وتعاملهم مع اليهود والصهيونية العالمية , الأمر الذي وصل إلى حد قتل كثير من أتباع الإخوان وأنصارهم في أكثر من حادثة خلال حكم الرئيس محمد مرسي .
وبعد أحداث 3 يوليو وعزل الرئيس محمد مرسي وفض اعتصامي رابعة والنهضة وما صاحبه من أحداث عنف راح ضحيته آلاف المصريين , تظاهرت الولايات المتحدة الأمريكية بعدم رضاها عما حدث , وبنفس الوقت لم تسم ما حدث انقلابا كما سماه تحالف الشرعية , بل ظلت تصريحاتها تنبئ كل طرف من الأطراف المصرية المتخاصمة بأنها معها , أو على أقل تقدير ليست مع الطرف الآخر , ليبقى النزاع والخلاف قائما بل ويزداد يوما بعد يوم .
فبعد أن قالت الخارجية الأمريكية في 9 من أكتوبر : إن واشنطن ستحجم عن تسليم أسلحة ومساعدات مقررة إلى مصر انتظارا لما وصفته بالتقدم بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان , حيث تم تجميد مبلغ 260 مليون دولار من المساعدات المقدَّمة للجيش المصري والبالغة 1.3 مليار دولار سنويا , يأتي تصريح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بعد ذلك مباشرة ليقول : إن قرار الولايات المتحدة وقف بعض المساعدات لمصر لا يعني أن واشنطن تقطع العلاقات مع القاهرة .
لقد صرح كيري في زيارته الأخيرة أمس للقاهرة وبكل وضوح هذه المرة عن دعم بلاده للسلطات الجديدة قائلا : إن واشنطن ستواصل العمل مع السلطات الحالية في مصر وتعهد بالاستمرار في تقديم المساعدات المختلفة لمصر , وأضاف : هناك توافق بين البلدين على العديد من النقاط ، وأوضح أنه عّبر لنظيره المصري عن تطلعه للعمل سويا على تنفيذ خريطة الطريق ومواجهة التحديات .

ومن يدقق في توقيت زيارة كيري المفاجئة أمس إلى القاهرة , وتصريحاته الواضحة في دعم السلطات المصرية الجديدة , بعد أن كانت أمريكا تعتمد سياسة الوقوف في المنطقة الرمادية من قبل , يؤكد خوف أمريكا من وقوع أمر ربما يجعل الأطراف المتنازعة بمصر تقعد على طاولة الحوار أوالمصالحة , الأمر الذي لا تريده الولايات المتحدة الأمريكية حتى لو كان هذا الاحتمال ضعيفا أو ضئيلا .
وما يدعم هذا التوجه برأيي هو : سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في إطالة أمد الصراع بين أبناء الوطن الواحد في أكثر من بلد عربي وإسلامي بغض النظر عن المتسبب بهذا الصراع أو المحق من المبطل فيها , ناهيك عن بعض المؤشرات التي تدعم هذا التوجه في مصر , وهي كثيرة ومنها على سبيل المثال :
خوف أمريكا من أن الأزمات السياسية والاقتصادية التي تواجه السلطات المصرية الجديدة قد ترغمها في آخر المطاف مع تزايد الاحتجاجات المطالبة بعودة الشرعية والتي ستصل ذروتها مع بدء محاكمة مرسي لقبول المبادرات الكثيرة المقدمة لحل الأزمة الخانقة التي تعصف بالبلاد , والتي كان آخرها مبادرة الجماعة الإسلامية بقيادة كل من المستشار محمود مكي نائب الرئيس السابق، وعبود الزمر القيادي بالجماعة الإسلامية ، والدكتور محمد سليم العوا المفكر الإسلامي , والتي لم يتم الكشف عن بنودها للإعلام لمحاولة إنجاحها كما صرح بذلك بعض قيادات الجماعة الإسلامية .
ووفق بعض المصادر فإن المستشار مكي كان ينتظر اتصالا من الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع يوافق فيه على طلب وساطته بين التحالف المؤيد لمرسي والسلطة الحالية , وأن مكي قد أرسل إلى السلطة الحاكمة مؤخرا رسالة مفادها : أنه لن يتحرك في الوساطة إلا إذا وجد نية حقيقية وجادة من قبل تلك السلطات، واشترط أن يكون اتصال السيسي به هو بادرة هذه النية .
إن خوف أمريكا من جلوس الجميع على طاولة محاولة الخروج من الأزمة التي تعصف بالبلاد , خاصة بعد انسداد أفق الحلول الأمنية والإقصائية المتبعة في الآونة الأخيرة , هو سر زيارة كيري الأخيرة لمصر وتظاهره بالوقوف إلى جانب السلطات المصرية الجديدة .
إنه يريد أن تبقى نار الفتنة والاقتتال بين أبناء الشعب الواحد والدين الواحد مستمرة , وذلك بانتظار المنتصر الذي يرضخ للسياسة الأمريكية ومطالبها , والحقيقة التي يعلمها كل مصري أنه لا يوجد منتصر في مثل هكذا اقتتال بل إن الخاسر الوحيد فيها هو مصر نفسها .