التصرف في الصبرة المشتراة جزافاً
26 محرم 1436
د.عبدالله آل سيف

• الصُّبْرة هي الكومة من الطعام وجمعها صُبَر.

• والجزاف: مثلثة الجيم: بيع ما لم يعلم قدره إذا بيع خرصاً بلا كيل أو وزن أو عد أو ذرع. قيل إنه فارسي معرب [1].

فإذا اشترى إنسان صبرة مشتراة جزافاً فهل يجوز التصرف فيها قبل القبض أولا؟. محل خلاف بين العلماء.

اختيار ابن تيمية:
لم يفرق ابن تيمية - رحمه الله - في حكم بيع المبيع قبل قبضه بين الصبرة وغيرها، فرأى التحريم مطلقاً، ولم أر له تفريقاً في ذلك، بل ذكر أن هذا القول هو ظاهر مذهب أحمد، قال صاحب الاختيارات: ويمتنع التصرف في الصبرة المشتراة جزافاً على إحدى الروايتين، وهي اختيار الخرقي، مع أنها من ضمان المشتري، وهذه طريقة الأكثرين ا. هـ [2].

تحرير محل النزاع:
1- أجمع العلماء على منع بيع الطعام المكيل والموزون قبل قبضه إلا خلافاً شاذاً لبعضهم [3].

2- يجوز بيع الصبرة المشتراة جزافاً مع جهل البائع والمشتري بقدرها إذا كانت في حوزة البائع، حكى ابن قدامة وغيره أنه لا خلاف في هذا بين العلماء[4].

ومحل الخلاف هو في بيعها قبل قبضها إذا لم تكن في حوزته.

أقوال العلماء:
القول الأول:
أنه يجوز بيعها قبل قبضها، وهو مذهب الإمام مالك [5]، ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه وهو المذهب المشهور، [6] وهو قول الأوزاعي وإسحاق[7].

القول الثاني:
أنه لا يجوز بيع الصبرة المشتراة جزافاً قبل قبضها، وهذا قول جمهور العلماء من الحنفية [8]، والشافعية [9]، وهو قول عند الحنابلة [10]، وقول ثانٍ للإمام مالك رجع عنه [11]. واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.

أدلة القول الأول:
وهو القول بالجواز:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه" متفق عليه [12].

• وفي رواية "حتى يقبضه".

ووجه الدلالة منه:
أن ظاهر الحديث يحظر بيع ما وقع عليه اسم طعام إذا اشتري حتى يستوفى. واستيفاؤه: قبضه على ما جرت العادة فيه من كيل أو وزن، فما بيع جزافاً بخلافه لا يشترط فيه القبض [13].

ويؤيده ما ورد في بعض روايات حديث ابن عمر بلفظ: "من اشترى طعاماً بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه" [14].

فدل بمفهومه على أن من اشتراه بغير ذلك، لا يلزمه القبض.

ونوقش:
أ- الروايات الأخرى العامة كرواية "سلعة" وهي عامة، وذكر بعض أفراد العام لا يقتضي تخصيصه به.

ب- أن هذا استدلال بمفهوم المخالفة وهو دليل ضعيف، خاصة إذا عارض المنطوق.

2- أن ما بيع من الطعام جزافاً لا يحتاج إلى كيله، فلم يبق فيه إلا التسليم، وبالتسليم يستوفى، فأشبه العقار والعروض [15].

ونوقش:
أ- أنه احتجاج بمسألة خلافية على موطن الخلاف، وهذا لا يسلم؛ إذ العقار والعروض يشترط لها القبض كذلك على الراجح، لكن قبض كل شيء بحسبه.

ب- أنكم وافقتم على الحاجة للتسليم لحصول الاستيفاء، وعليه فيلزم تسلم البائع من البائع الأول له قبل أن يبيعه.

ج- أنهم تناقضوا فاشترطوا القبض في بيع الثمرة فدل على فساد قولهم.[16]

د- أن حظه من الصبرة داخل في ضمانه بالعقد وإن لم يستوفه فجاز بيعه قبل قبضه [17].

ونوقش:
بأن هذا لازم لكم في بيع الطعام بالكيل والوزن، وهو خلاف الإجماع.

أدلة القول الثاني:
وهو القول بعدم الجواز:
1- حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لقد رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتاعون جزافاً - يعني الطعام - يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤدوه إلى رحالهم" متفق عليه [18].

وفي لفظ لمسلم: "كنا نبتاع الطعام فيبعث إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه".

وهذا الحديث صريح في المسألة.

2- أن القبض لو لم يعين في الشرع لوجب رده إلى العرف، كما قلنا في الإحياء، والعادة في قبض الصبرة النقل [19].

الترجيح:
والراجح - والله أعلم - هو القول الثاني:

1- لصراحة حديثهم وصحته، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.

2- ودليل المخالفين ضعيف لأنه استدلال بمفهوم المخالفة أو دليل الخطاب وهو ضعيف الدلالة.

وسبب الخلاف والله أعلم هو خفاء هذه الرواية على من لم تبلغه من العلماء، فلذا روى عن مالك وأحمد في المسألة قولان، مما يدل على حصول رجوع منهما عن المسألة. والله أعلم.

[1] انظر: المصباح المنير: (مادة صبر: ص331)، تحرير ألفاظ التنبيه: (176، 193)، المطلع: (240)، الكليات لأبي البقاء: (560)، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: (136).
[2] الاختيارات: (126)، وانظر: مجموع الفتاوى: (29/400)، الفتاوى الكبرى: (5/391)، الفروع: (4/137)، الإنصاف: (4/461)، حاشية ابن قاسم: (4/478)، المستدرك: (4/15)، الشرح الممتع: (8/369).
[3] سبق تقرير هذا الإجماع في مسألة بيع الطعام قبل قبضه ص: (477).
[4] انظر: المغني: (6/201)، فتح الباري: (4/351)، ونقل فيه خلاف عن بعضهم فيما إذا جهل أحدهما القدر دون الآخر لأنه تدليس، انظر: شرح مسلم: (10/169).
[5] انظر: المدونة: (4/78-88)، الإشراف: (1/266)، التمهيد: (13/336)، الاستذكار: (19/256)، المستخرجة: (7/296-297)، البيان والتحصيل: (7/92)، الذخيرة: (5/136)، شرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب: ( 314).
[6] انظر: المغني: (6/202)، مجموع الفتاوى: (29/400)، الفتاوى الكبرى: (5/391)، الفروع: (4/137)، الإنصاف: (4/461)، المبدع: (4/120)، حاشية ابن قاسم: (4/478)، المستدرك: (4/15)، الاختيارات: (126).
[7] انظر: التمهيد: (13/336)، فتح الباري: (4/351).
[8] انظر: شرح فتح القدير: (6/515-516)، شرح العناية: (6/515-516)، الهداية: (3/59)، تبيين الحقائق: (4/79-82)، البحر الرائق: (6/126-128)، حاشية ابن عابدين: (5/155-157).
[9] انظر: شرح النووي على مسلم: (10/169-170)، أسنى المطالب: (2/82-83)، حاشية قليوبي: (2/212)، تحفة المحتاج: (4/410)، نهاية المحتاج: (4/84-85)، حاشية الجمل: (3/161).
[10] انظر: المغني: (6/201)، مجموع الفتاوى: (29/400)، قواعد ابن رجب: (78)، الفروع: (4/137)، المبدع: (4/120)، الاختيارات: (126-127)، الإنصاف: (4/461)، حاشية ابن قاسم: (4/478)، المستدرك: (4/15).
[11] انظر: البيان والتحصيل: (7/92، 296-297)، الذخيرة: (5/136)، المسائل الفقهية التي رجع فيها الإمام مالك:(238)، شرح المنهج المتخب إلى قواعد المذهب:( 314).
[12] سبق تخريجه ص: (485).
[13] انظر: التمهيد: (13/336)، الاستذكار: (19/256).
[14] سبق تخريجها ص: (481).
[15] انظر: التمهيد: (13/336)، المغني: (6/202).
[16] انظر: التمهيد: (13/337).
[17] انظر: البيان والتحصيل: (7/92-93).
[18] سبق تخريجه ص: (481، 483)، وهذا اللفظ بعض ألفاظه: انظر صحيح البخاري برقم (2131، 2137، 6852) وصحيح مسلم: (3/1160)، برقم (1527).
[19] انظر: المغني: (6/203).