هل من خلف لشيخ الشافعية بالإحساء ؟؟
22 ذو الحجه 1434
د. عامر الهوشان

لا شك أن موت العلماء خسارة كبيرة للمجتمع الإسلامي ككل , فهم المنارة في طريق الحياة الوعر و المظلم , وهم القدوة للناس في أيام الشدائد والمحن , وهم الكنز الذي لا يمكن أن يعوض إلا بخلف له , ولذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم قبض العلماء بمثابة رفع العلم من الأرض فقال صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ وَيُبْقِى فِى النَّاسِ رُءُوسًا جُهَّالاً يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ) صحيح مسلم برقم/6974
كما أن موت العلماء يعتبر ثغرة وثلمة في الإسلام لا تسد كما ورد في الأثر (إذا مات العالم انثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة) وهو قول لعلي رضي الله عنه وهو معضل كما قال السخاوي , إلا أن له شواهد تعضده منها : عن جابر رفعه (موت العالم ثلمة في الإسلام لا تسد وموت قبيلة أيسر من موت عالم وهو نجم طمس) وعن ابن عمر (ما قبض الله عالما إلا كان ثغرة في الإسلام لا تسد) وعن ابن عباس في قوله تعالى (أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) قال ابن عباس في رواية : خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها , وكذا قال مجاهد أيضا : هو موت العلماء. المقاصد الحسنة للسخاوي ج:1 ص:95 .
وقد ودع العالم الإسلامي بشكل عام والسعودية بشكل خاص منذ أيام واحدا من أبرز علماء الرعيل الأول للحركة العلمية في البلاد , ممن تركوا بصمات خالدة في سجل تاريخ البشرية , فهو أحد مؤسسي أهم المدارس الدينية في المنطقة , والتي امتدت جسورها إلى دول الخليج العربي واليمن وبلاد الشام وصولا إلى قلب الهند طيلة 80 عاما مضت.
إنه الشيخ أحمد بن عبدالله الدوغان الإحسائي الخالدي , والذي يرمز له ( شيخ المذهب الشافعي) في محافظة الأحساء (شرق السعودية)، فقد توفي مساء السبت الماضي بعد معاناة طويلة مع العجز والمرض عن عمر يناهز الـ102 عام، أفناها في الدعوة وخدمة أبناء المحافظة وتعليمهم وإقامة الدروس والمحاضرات طيلة فترة حياته.
ولد الشيخ سنة 1332 هـ ، في حي الكوت في مدينة الأحساء ، ونشأ فيها ، وتلقى العلم على علمائها , ومن أبرز شيوخه الشيخ محمد بن حسين العرفج الشافعي والشيخ عبد العزيز بن صالح العلجي المالكي , وقد أجازه في العلم كثير من العلماء من أبرزهم : الشيخ المسند محمد ياسين الفاداني ، والشيخ المحدث عبد الفتاح أبو غدة ، والشيخ المفسر المحدث عبد الله سراج الدين الحلبي ، رحمهم الله تعالى .
حفظ شيخ الأحساء الدوغان القرآن الكريم كاملاً ، كما حفظ ''متن الزبد'' وحفظ من ألفية ابن مالك 300 بيت ، ودرّس المذهب الشافعي في المدرسة الابتدائية بالأحساء ما يزيد عن ربع قرن، كما درس الفقه الشافعي لعدد كبير من طلاب العلم في الأحساء وخارجها , وعرف عنه تصديه لنشر العلم الشرعي والفقه الشافعي في الأحساء، حتى اعتبره الكثيرون من أبرز المجددين في المدرسة الشافعية.
بدأ كفاحه الحياتي والعلمي حين انتقل إلى الهند بحثا عن لقمة العيش مثله مثل الآلاف من أهالي المنطقة الشرقية آنذاك ، فدرس صبيان الهند بأجر شهري لم يتجاوز "روبيتين" هندية , وكان من كلامه رحمه الله تعليقا على تلك الأيام : ( ابتلينا بالفقر ، والآن في نعمة عظيمة ، لا نحصي ثناء عليه) ، وقد تتلمذ في الهند على يد أسعد الله الهندي وحفظ القرآن وعلومه والتجويد والقراءات ، وكانت له العديد من الرحلات الدعوية العلمية إلى الحجاز واليمن وسوريا وغيرها من دول العالم الإسلامي.
من كتب الفقه الشافعي التي درسها الدوغان : عمدة السالك وعدة الناسك، وشرح منظومة الزبد، والإيضاح في مناسك الحج للإمام النووي، وكفاية الأخيار، والإقناع، ومغني المحتاج شرح المنهاج، وكان للدوغان إلى عهد قريب حلقات علمية يدرس فيها القرآن الكريم والفرائض والنحو قبل أن يفقد قِواه.
وقد عرف عن الشيخ الدوغان نبذه للتعصب والتشدد بكافة أشكالهما خصوصا فيما يرتبط بالدين والعبادة، وكان مضرب المثل في التسامح والزهد والورع , وقد رحل الدوغان تاركا خلفه تركة علمية كبيرة وتاريخا كفاحيا طويلا .
ويسجل التاريخ الحديث للعلاَّمة الدوغان تأسيس مدرسة علمية دينية تمكنت من مدّ جسور التواصل المعرفي مع طلبة العلم الوافدين للأحساء , فقد درس العديد من طلاب العلم العرب والأجانب , كما امتدت حلقات العلم إلى كافة دول الخليج العربي واليمن وبلاد الشام والهند وغيرها، من خلال تلاميذه الذين نشروا منهجه التعليمي .
وقد اعتبر الباحث الإسلامي مهنا الحبيل أن الشيخ الدوغان يعدّ آخر شخصيات الجيل الذهبي لحركة الأحساء العلمية التي غادر كثير منهم الحياة قبل القرن الخامس عشر هجري، إلى جانب كونه جامعاً للزهد والورع والتواضع أمام كل من يحضر مجلسه وحلقاته العلمية.
ولفت الحبيل إلى المشروع التاريخي للشيخ الدوغان الذي أنقذ مسيرة الأحساء وعمل على ترسيخ مسارات التشريع الإسلامي القائم على مسارات رعاية العلم ومنهجية الفقه في مذاهبه الأربعة وما يرتبط معه في الآداب والسلوك وأخلاق طلبة العلم وتوسيع العارضة الفقهية في فهم التعدد في استنباط الأحكام، وهو مشروع شاركه فيه الشيخ محمد بن ابراهيم المبارك المتوفى 1405هـ عبر منهجه وعلاقاته ومن خلال مدرسته المالكية.
وأضاف أن الدوغان نجح في ترسيخ مدارس المذاهب الفقهية العريقة المتعددة بالأحساء وحمايتها من الضعف خاصة مع ازدياد الجرأة على تكفير المخالفين وتضليلهم، لذلك وصل مدرسته بمدرسة الأولين وعزز التواصل والتعاون مع المدارس الشرعية الأخرى.
وقد تناولت أفكار الشيخ الدوغان تصحيح ونقد بعض الرؤى سواء في العلاقة بين مناهج الفقه والتفكير الديني، أو في العلاقة بين تيارات المجتمع وطريقة التعامل الراشد معها والركون إلى سعة القبول والحوار عوضا عن المصارعة الشرسة، مع إبقاء مساحة معروفة تفصل التيار العلمي الشرعي عن بعض الأطروحات الفكرية.
استفاد من مدرسة وعلم الشيخ الدوغان الكثير من علماء الوقت الحالي من داخل الأحساء وخارجها من أبرزهم : نجليه الدكتور محمد وعبد العزيز، ووليد بن عبد اللطيف العرفج، وأخوه الدكتور أحمد، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الله السعيد العرفج، والشيخ عبد اللطيف بن محمد العرفج، والدكتور عبد الإله بن حسين العرفج، والدكتور عصام بن عبد العزيز الخطيب، وماهر بن عبد اللطيف الجعفري، والشيخ محمد بن إبراهيم أبو عيسى العمير، وغيرهم.
وقد أثنى كثير من العلماء على الشيخ الدوغان , فقال عنه الشيخ المحدث المحقق محمد عوامة حفظه الله:
(وفي مدينة الأحساء: بقية السلف الصالح شيخنا العالم العامل القدوة المعمَّر الشيخ أحمد دوغان حفظه الله وعافاه ، ربّى أجيالاً خلال عدة عقود ، يُعتمد عليهم في الفتوى في الفقه الشافعي ، أقرَّ الله عين الشيخ بهم ) .
إن وفاة أمثال هؤلاء العلماء في العالم العربي والإسلامي يثير تساؤلا حول الخلف والبديل , فإن كان هناك من يخلفهم في العلم والعطاء فهو أمر يخفف إلى حد كبير من وقع الحدث والمصيبة , وإن لم يكن لأمثالهم بعد وفاتهم خلف أو مثيل فإن المصيبة تصبح مصيبتين أو ربما أكثر .