إصلاحات أردغان
5 ذو الحجه 1434
د. عامر الهوشان

رغم الحساسية الشديدة تجاه العلمانية في تركيا , حيث تعتبر ركيزة العلمانية في البلاد الإسلامية بعد تقويض الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية التركية العلمانية على يد أتاتورك , إلا أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردغان استطاع إحداث اختراق نوعي للعلمانية المتجذرة في بلاده , كما استطاع إعادة الكثير من معالم الإسلام ومظاهره الأصيلة في الحياة التركية , وكان آخر إنجازاته في هذا المجال حزمة الإصلاحات الديمقراطية التي أعلن عنها مؤخرا .
وبعيدا عن الانتقادات الموجهة للرجل جراء تبنيه علمانية إسلامية إذا صح التعبير , وسواء كان ذلك سياسة ظاهرية لا بد منها بداية للتدرج بالنقلة النوعية بتركيا إلى الإسلام , أو كان ذلك منهجا متبعا من الرجل , فإن ما يهمنا في هذا الإطار هو الأفعال لا الأقوال والنوايا , وهذه الأفعال تؤكد بأن مظاهر الإسلام تعود لتركيا يوما بعد يوم , ناهيك عن الارتقاء بالبلد اقتصاديا وحضاريا .
ومن المعلوم أن حزب أردغان وصل إلى الحكم في تركيا منذ 11 عاما تقريبا , وقد كانت تركيا حين استلمها أردغان في حالة يرثى لها , فقد كانت تركيا مديونة بدين داخلي يقدر بحوالي 63 مليار دولار , بينما الدين الخارجي يقدر بحوالي 100 مليار دولار , ونسبة البطالة 20% من الشعب التركي , وكان خفض الأجور يقدر بحوالي 20% عندها , والنمو التركي كان سالبا 7,5% , ونسبة السرقة من النظام العلماني تقدر بحوالي 195 مليار دولار .
وبعد وصول حزب أردغان الإسلامي إلى الحكم , وبعد حوالي 11 عاما من فترة حكمه نهضت تركيا نهضة اقتصادية كبيرة , فتضاعف الناتج المحلي لتركيا 6 أضعاف ونصف , ليقفز من 147 مليار دولار إلى 960 مليار دولار , وليتضاعف أجر ومرتبات الأتراك من 2300 دولار في السنة إلى 10000 دولار في السنة , كما ارتفع حجم الصادرات التركي من 33 مليار دولار إلى 152 مليار دولار , وهناك خطة ليصل إلى 500 مليار دولار بحلول عام 2023م .
وإضافة لكل ذلك نفذ أردغان مشروعا جريئا بفتح ممر بحري ومضيق يوازي مضيق البوسفور , وقد سمي قناة اسطنبول لوصل البحر الأسود ببحر ممره , الذي وفر مئات الآلاف من فرص العمل , ناهيك عن صياغة دستور جديد للبلاد بالاتفاق مع أحزاب المعارضة , مما جعل تركيا تنعم بالاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي طوال فترة حكم حزب أردغان .
وضمن سلسلة الإصلاحات الأردغانية الجديدة , دخلت يوم أمس حزمة الإصلاحات الديمقراطية الجديدة حيز التنفيذ , وهي حزمة تشمل ثلاث مجوعات رئيسية هي : مواد متعلقة بالنظام الانتخابي والحياة الحزبية , و أخرى متعلقة بالحريات الشخصية والدينية , وثالثة متعلقة بالأقليات الدينية والمذهبية والعرقية .
وإذا كانت المجموعة الأولى من الإصلاحات تتعلق بإلغاء القانون الذي يسمح بغلق الأحزاب السياسية وحظرها , واستبداله بقانون يسهل إنشاء الأحزاب ولو كانت صغيرة وفتح فروع لها , في إطار استيعاب جميع الآراء والتيارات في المجتمع التركي , فإن أهم ما في الإصلاحات المتعلقة بالحريات الشخصية والدينية هو إلغاء حظر ارتداء الحجاب في المؤسسات الحكومية باستثناء (القضاء والقوات المسلحة والشرطة) , حيث تشهد تركيا قيودا صارمة منذ فترة طويلة تحول دون ارتداء النساء العاملات في مؤسسات الدولة للحجاب .
وإذا لم يكن في هذه الإصلاحات إلا هذا الجانب فهو إنجاز كبير يستحق عليه أردغان كل الاحترام والتقدير , فبينما تتجه بعض الدول العربية العريقة في الإسلام إلى العلمانية البائسة وتفتخر بها , بل وتحارب التوجه الإسلامي في البلاد بشكل مخيف , وتميل إلى فرض قيود على حجاب المرأة أو لباسها , من خلال المضايقات في الشارع والمؤسسات , فإن أردغان يتجه بتركيا من العلمانية إلى الإسلام .
كما تشمل الإصلاحات التي دخلت حيز التنفيذ من يوم أمس الثلاثاء إلغاء تحية العلم المعمول بها في تركيا منذ عقود , والتي كانت مقررة في المدارس على طول البلاد وعرضها ، حيث كان التلاميذ في طوابير الصباح يرددها كل يوم , وهي تحتوي مضامين تشيد بالقومية التركية ، وبمؤسّس تركيا الحديثة (مصطفى كمال آتاتورك).
وللقارئ أن يتصور صعوبة تغيير الأفكار والمفاهيم العلمانية المتجذرة في الذهن التركي , والتي تمجد أتاتورك وتعظمه , كما له أن يتخيل أهمية النقلة النوعية التي تحدثها خطوة كهذه في المدارس التركية , حيث تنتقل الناشئة في تركيا من تقديس العلمانية ورموزها , إلى جعل الإسلام ورموزه الأحق بهذا التقديس والتبجيل في المستقبل القريب بإذن الله .
وقد شملت هذه الإصلاحات أيضا الأقليات المذهبية والعرقية , فسمح للمدارس الخاصة بالتعليم بمختلف اللغات (الكردية مثلا) واللهجات , كما سمح للأحزاب بالدعاية بلغات غير تركية , إضافة لفتح الأفق بتغيير أسماء القرى لأسماء كردية أو غيرها , ومنع قسم الطلاب المطبق بالمدارس الابتدائية والمتوسطة منذ عام 1933 , والذي يتضمن قول : (أنا تركي) , ناهيك عن قرار مجلس الأوقاف إعادة 12 عقار (244 دونم) لدير مار غابرييل التابع للمسيحيين السريان في ولاية ماردين جنوب تركيا , والذي يعتبر أقدم الأديرة السريانية بالعالم .
وهو انفتاح على جميع المذاهب والأديان الموجودة في البلاد من جهة , وضمن إطار عملية السلام بين الأكرد والأترك التي بدأت مؤخرا من جهة أخرى , والتي يمكن أن تعطي دفعا لهذه العملية , مما يسير بالبلد نحو مزيد من الاستقرار والازدهار .
لقد تحولت تركيا بهذه الإصلاحات وأمثالها من أعلى دولة في نسبة التضخم بنسبة 1000% , ومن دولة سجلها سيء في حقوق الأنسان , ومن دولة مكبلة بالديون وينخرها الفساد , إلى دولة وصل نسبة النمو الإقتصادي فيها في مرحلة من المراحل إلى 11% , محتلة المركز الأول ومتفوقة على الصين 9.70 وسنغافورة 8.30 والهند 7.80 والسويد 6.40, مما جعل تركيا لاعبا مهما اقتصاديا وسياسيا على مستوى المنطقة .
أفلا يستحق عمل كهذا التقدير والاحترام ؟؟! أفلا يستحق الاقتداء والتأسي بغض النظر عن خلافات البعض مع توجهات أردغان ؟؟!!