تصريح الحج وعلاقته بالسياسية الشرعية
10 ذو القعدة 1434
د. نايف بن جمعان الجريدان

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن من النوازل المعاصرة المتعلقة بالحج مسألة حكم الحج بدون تصريح من الجهات النظامية، ولا شك أن الباعث على إصدار مثل هكذا قرار في المقام الأول تحقيق مصلحة راجحة، ودفع مفسدة ظاهرة، ورفع ضرر متحقق، والسعي لراحة الحجاج، والقضاء على ازدحامهم وما ينتج عنه من وفيات وإصابات، والقضاء على ظاهرة الافتراش وما تسببه من مشكلات، كل ذلك كان وراء إصدار هذا القرار المبني على السياسة الشرعية لتحقيق هذه المعاني المقاصدية العظيمة.

 

وما يصدر عن أولي الأمر من أحكام وإجراءات منوطة بالمصلحة فيما لم يرد بشأنه دليل خاص، متعين، ولم يكن فيه مخالفة للشريعة هو من باب السياسة الشرعية التي على الأمة الالتزام بها. فيشمل ذلك كل ما يلزم سياسةً من فعل أو ترك، سواء كانت على شكل أنظمة وقوانين، أو فتوى، أو غيرها، أو حتى القرارات الصادرة على شكل إجراءات التي تكون محل فعل وتنفيذ، وحركة وتدبير(1).

 

وبناء على ذلك فإن على الحاكم وولي الأمر السعي في تحقيق مصلحة الرعية، كما قال الإمام عز الدين بن عبد السلام –رحمه الله-(2): "والولاية لها عامها وخاصها ومتوسطها كلها وسائل إلى جلب مصالح المولى عليه ودرء المفاسد عنه، الأولى من ذلك فالأولى، وأول الولايات تولية أهل الحل والعقد الخلافة، وتولية الخلفاء القضاة والولاة والأمراء، تولية كل واحد من هؤلاء ما لا يتم القيام بمصالح ولايته إلا به، ومن ذلك تولية الشرع... ومنه تولية الإمامة، وعلى كل واحد من هؤلاء الأولياء القيام على ما ولاه الله إياه بتقديم الأصلح فالأصلح، والأمثل فالأمثل، وتأخير الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل، قال عليه الصلاة والسلام: " مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، ثم لم يجهد لهم وينصح لهم لم يدخل الجنة معهم"(3).

 

ويدخل في قولنا الحاكم أو ولي الأمر العلماء والمفتين من أهل العلم، وليست السياسة الشرعية حصرا على الحاكم فقط، وقد اطلعنا على فتاوى العلماء القاضية بالقول بالالتزام بإصدار تصريح لكل مريدي الحج.

 

وحيث إن مدار إصدار الحكم الشرعي المستنبط عن طريق السياسة الشرعية لأي نازلة منوط بالمصلحة، فإنه متى ما وجدت المصلحة وبكل ما دفعت به المفسدة لزم الأخذ به وتطبيقه. وقد قعَّد العلماء لذلك قواعد جليلة، فمن ذلك قولهم: "التصرف في الرعية منوط بالمصلحة"(4)، وأصل هذه القاعدة قول الشافعي -رحمه الله-: "منزلة الإمام في الرعية منزلة الولي من اليتيم"(5)، وهذا الأصل مأخوذ من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، فإن استغنيت استعففت (6)، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " الإمام راع ومسئول عن رعيته"(7).

 

وهكذا فإن الشريعة الإسلامية مبنيَّة على العناية بتحْصيل المصالح الإسلاميَّة وتكميلها، ورعايتها حسب الإمكان. والعِنَاية بِدَرْء المفاسد كلِّها أو تقليلِها، ودفع الحرج والمشّقة عن العباد، وهي قاعدة في الشريعة معتبرة، وقد تضافرت الأدلة واستفاضت النصوص في تقرير ذلك وبيانه.

 

والمصلحة المرجوة من إلزام مريد الحج باستخراج التصريح ظاهرة، وقد ذهب جمهور العلماء إلى حجية العمل بالمصالح، أي بناء الحكم عليها واعتبارها أصلا تثبت به الأحكام السياسية الشرعية، خاصة إذا تحقق من بناء الحكم عليها جلب مصلحة ودرء مفسدة –كما في مسألتنا-، وكونها كلية لا جزئية، بمعنى أنها تشمل عددا كبيرا من الناس، تجلب لهم النفع وتدفع عنه الضرر، ووجدناها أيضا لا تعارض حكما أو قاعدة ثبتت بالنص أو الإجماع، وبذلك توفر في إصدار قرار الإلزام بإصدار تصريح الحج شروط العمل بالمصلحة أيضا(8).

 

وعليه فإنه لا تجوز مخالفة الأنظمة المبنية على مراعاة المصالح، وقد أفتى غير واحد من أهل العلم المعاصرين أن من حج يعتبر عاصيا وآثما، وأن إثمه عند الله هو الذي يقدره، وأما حجه إذا كان مكتمل الأركان فحج صحيح، وقاسوه على المرأة التي تحج بدون محرم. ولعل من رأي تأثيم من حج بدون تصريح إضافة إلى ما ذكرنا أن في ذلك طاعة لله -عز وجل-؛ لكون طاعة ولي الأمر في هذا تُعد طاعة لله، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فلما خاطبنا الله سبحانه بالإيمان أفادنا أن من مقتضى الإيمان طاعة الله، وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر، فطاعة ولي الأمر قربة لله تعالى.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

_______________________

(1) ينظر: التعليق على السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية، لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، طبع بإشراف مؤسسة الشيخ ابن عثيمين الخيرية، الناشر: مدار الوطن للنشر، ص 8-9 بتصرف.
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تحقيق عبد الغني الدقر، دار الطباع، دمشق 1413هـ-1992 م، ص(181(.
(3) أخرجه مسلم، في صحيحه، في كتاب الإمارة، بَابُ فَضِيلَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ، وَعُقُوبَةِ الْجَائِرِ، وَالْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ، وَالنَّهْيِ عَنْ إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ (3/1460)، رقم(142).
(4) انظر هذه القاعدة في: المنثور للزركشي: (1/183)، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص (134)، مجموع الحقائق للخادمي: ص (316)، الوجيز للبورنو: ص(292).
(5) انظر: المنثور للزركشي (1/183).
(6) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، رقم(11164)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. وصححه ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/51).
(7) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، بَابُ الجُمُعَةِ فِي القُرَى وَالمُدُنِ، (2/5)، رقم (7138)، ومسلم في كتاب الإمارة، بَابُ فَضِيلَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ، وَعُقُوبَةِ الْجَائِرِ، وَالْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ، وَالنَّهْيِ عَنْ إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ، (3/1459)، رقم (1829).
(8) ينظر في شروط المصلحة: المدخل إلى السياسة الشرعية، عبد العال عطوة، الناشر إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام، الطبعة الأولى، عام 1414ه، ص 149-150.