المسلمون في البوسنة أشباح الماضي وكوابيس الحاضر
8 ذو القعدة 1434
عبد الباقي خليفة

في المدة الأخيرة زار رئيس العلماء والمفتي العام في البوسنة حسين كفاصوفيتش، أبو حمزة السوري ، في سجن لوكافيتسا، بمناطق صرب البوسنة، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها مسؤول كبير من البوشناق المسلمين للسجن للاطلاع على أحوال سجين ذنبه الوحيد أنه قاتل إلى جانب المسلمين أثناء الحرب، في موقف تشفي من المسلمين الذين ساعدوا إخوانهم في وجه الإبادة . مقابل عدم سجن أو محاكمة أي شخص آخر قاتل في الجانب الكرواتي أو الصربي أثناء الحرب، سواء كانوا من الروس، أو البلغار، أو الاكرانيين أو اليونايين أو غيرهم من الجنسيات التي قاتلت جنبا إلى جنب مع التشتنيك الصرب، أو الاستاشا الكروات .

 

كانت الزيارة مفاجئة لأبو حمزة، الذي يقضي عامه السادس في السجن ، دون أن يلتفت إليه أحد لا من المسؤولين المحليين أو الدوليين ، بل إن الاتحاد الاوروبي هو من يدفع تكلفة إقامة العرب في سجون الصرب بالبوسنة . وهذا أمر معروف ومعلن وغير خاف على المتابعين لهذا الملف من داخل البوسنة أو خارجها.  وقد سأل أبو حمزة ، المفتي وهو لا يكاد يصدق، لماذا جئت إلى زيارتي؟ فرد عليه ، جئت أزورك في الله ، فبكى أبو حمزة ، الذي عانى الاهامل من قبل المسلمين، وعانى السادية الصربية طويلا، وبكى المفتي بأصوات مرتفعة سمعها من كان بالقرب منهما، ونقلت ذلك وسائل الاعلام البوسنية ولكن بأشكال مختلفة ، بين مرحب بالزيارة  ومن اعتبرها قوة معنوية للسجين بلا ذنب أبو حمزة السوري ، وبين مندد بها . وكتبت بعض وسائل الاعلام المرتبطة بدوائر معادية للاسلام والمسلمين في نقد المفتي ومحاولة  التأليب عليه، والحديث عن معارضيه .

 

الشيخ حسن كفاصوفيتش، رجل معروف بدماثة اخلاقه، وسعة آفاقه ، وهو يختلف عن الكثيرين ممن تلقوا تعليما دينيا سواء في داخل البوسنة أو منطقة البلقان أو خارجها كالازهر، وغيره. فقد من الله عليه بفتح عظيم عندما وجد الطريق الصحيح للتعبير عن عالمية الاسلام وفهمه الفهم العملي الصحيح. ولديه من الخطوط العريضة للفهم الصحيح للاسلام ما يؤهله لاداء دور تاريخي في حياة المسلمين، على خطى الغازي خسرف بك، و جمال الدين تشاوتشيفيتش، وعلى عزت بيجوفيتش. وقد كان رئيس العلماء السابق الدكتور مصطفى تسيريتش، أن يكون أحد أهم رجالات البوسنة التاريخيين، لو نشأ نشأة حركية ،أو استدرك ما فاته كما فعل رئيس العلماء الشيخ حسين كفاصوفيتش. فقد كان ولا يزال دبلوماسيا براغماتيا ، وهي صفة جيدة لكنها لا تصنع شعبية . وربما كانت صفات الدكتور تسيريتش مناسبة جدا للوضع الذي وجدت البوسنة نفسها فيه، ليس بعد وفاة تيتو وانقسام يوغسلافيا فحسب، بل منذ مؤتمر برلين سنة 1878 م. وهي لا تزال تعيش هذا الوضع إلى يومنا هذا ، مع اختلاف في نسبة المعاناة من عهد إلى عهد وإن كانت جميع العهود تداعيات تاريخية لما حدث بعد انحصار ظل الخلافة العثمانية ومن ثم الغاءها سنة 1924 م .

 

حال البوسنة، يشبه حال أبو حمزة، بل هو اختزال لما يجري في البوسنة، والتي لم تتحول حتى الآن إلى دولة طبيعية، مثل بقية دول العالم ، فالصرب لا يزالون مصرين على اعتبار اتفاقية دايتون، هي دستور البوسنة، ولا مجال للحديث عن توحيد البوسنة تحت حكومة مركزية واحدة . والكروات يؤيدون الصرب، لأن أطماعهم في اقتسام ال 51 في المائة مع المسلمين وتكوين دويلة تكون ظهيرا لكرواتيا أو جزءا من كرواتيا ، مرتبط ببقاء صرب البوسنة كيانا بصلاحياته الحالية، كما يعلنون حتى الآن ، ومن خلال تسمية الكثير من المؤسسات الاعلامية والاقتصادية باسم " هرسك بوسنة" وهي دولتهم المزعومة والتي أعلنوا عنها أثناء الحرب 1992 /1995 م. وتحديدا سنة 1993 م .

 

في المدة الأخيرة حدث تطوران مهمان على الساحة البوسنية والاقليمية ، وهما افتتاح النصب التذكاري للقتلى البوشناق في الحرب الكرواتية الصربية، والجدل حول عصابات التشتنيك الصرب، التي يقال أنها عادت للعمل كمنظمة شبه عسكرية في مناطق صرب البوسنة"49" في المائة . ففي الوقت الذي ينزع فيه كروات البوسنة للتمايز عن البوشناق البوسنيين، هناك محاولات لادماج البوشناق المسلمين في كرواتيا. وذلك ليس باشراكهم في الوظائف الهامة في الدولة، حيث لم يصبح إلى حد الآن أي وزير مسلم في حكومة كرواتية منذ استقلال كرواتيا سنة 1991 م ، وإنما بأشكال بروتوكولية كالاشادة بالمفتي لدوره في السلم الاهلي ومناهضة العنصرية، أو إقامة نصب تذكاري للقتلى المسلمين في الحرب الكرواتية الصربية. وقد قام بازاحة الستار عن النصب التذكاري، وزير الدفاع الكرواتي، بريدراغ ما تيتش، مع العلم أن الذي قام بتمويل تكلفة النصب مسلمان هما جميل هوسيتش، وحارث مؤمينوفيتش. ويضم النصب التذكاري أسماء 27 قتيلا مسلما في الحرب . وقد تحدث وزير الدفاع عن دور المسلمين البوشناق في الحرب حيث مثلوا نسبة 10 في المائة من اجمالي القتلى بكرواتيا.

 

وتحدث وزير الدفاع الكرواتي عن تعاون الكروات والبوشناق أثناء الحرب، في البوسنة قبل أن يوجه الكروات بنادقهم لصدور البوشناق المسلمين، على إثر الاتفاق الشهير بين الرئيس الصربي الاسبق سلوبودان ميليشيفيتش ، والرئيس الكرواتي الأسبق فرانيو توجمان، سنة 1992 م . لم يذكر الوزير الكرواتي ذلك الاتفاق، ولم يتحدث عن حصاد الجرائم التي ارتكبها الكروات بحق المسلمين، في موستار وفيتز وبوغينو وترافنيك ، ولكنه تحدث عن العلاقة التي أعقبت ذلك ولا سيما بعد توقيع اتفاقية الفيدرالية سنة 1994 م حيث ساعد البوشناق الكروات على تحرير منطقة كرايينا الكرواتية وعاصمتها كنين، مقابل مساعدة الكروات للبوشناق على تحرير بيهاتش، والانسحاب من اكمال تحرير بنيالوكا ، بعد تلقي الأوامر من الانسحاب لأن الولايات المتحدة الامريكية والغرب عموما لم يريدوا قيام دولة بوسنية يمثل المسلمون فيها الأغلبية، وفي نفس الوقت لم يقبلوا قيام دولتين عرقيتين كبيرتين في المنطقة هما صربيا الكبرى وكرواتيا الكبرى، لكن معاناة المسلمين وتعرضهم للتهديد المستمر هو بيت القصيد في اتفاقية دايتون التي أجبر عليها الزعيم الراحل علي عزت بيجوفيتش.

 

الوزير الكرواتي تحدث عن مشاركة بوشناق كرواتيا في الحرب إلى جانب الجيش الكرواتي، وتحدث عن دور الجيش الكرواتي ومساهمته في تحرير بيهاتش البوسنية التي قال إن ما كان يتهددها أكبر مما حدث في سريبرينتسا. لكنه لم يتحدث عن دور بوشناق البوسنة في تحرير كرايينا الكرواتية كما سلف. وفي ذلك عبرة ونظر.

 

حتى على المستوى الكرواتي، يشتكي البوشناق المسلمون في كرواتيا من التمييز حتى في التعامل مع قدامى المحاربين، فالكروات يتلقون معاملة خاصة بينما يعامل البوشناق الكروات معاملة مواطنين من درجة ثانية . وقد اعتمد الوزير في ذلك على أن الأغلبيية هي من تقرر في الديمقراطيات ، وبرر ذلك بأن " القانون ليس هو العدالة فأحيانا " يسيران في خطين متوازيين" . وهذا هو حال القانون مع المسلمين في كرواتيا، قصد ذلك الوزير أم لم يقصده .

 

رئيس المحاربين القدامى من البوشناق في كرواتيا  حمدي ماليتش، قال إن 25 ألف بوشناقي من كرواتيا شاركوا في الحرب إلى جانب الجيش الكرواتي، وبلغ عدد القتلى منهم 1100 مقاتل ، وهؤلاء لم يحصل ذووهم على التعويضات التي حصل عليها زملاءهم الكروات ، مما يؤكد حسب قوله ، موازين اللاعدالة أو ازدواجية الموازين .  وهو ما يعني أيضا أن التعايش المشترك الدي تحدث عنه محافظ رييكا زلادكو كومادينا، لن يكون له مستقبل جيد إلا بارساء العدالة بين مختلف الشعوب، والكف عن محاربة الاسلام والمسلمين سواء عن طريق الحروب أو الحملات الاعلامية المسعورة ، ومن ذلك قضية أبو حمزة السوري، الذي يقبع في السجن نتيجة الحقد الصربو كرواتي على المسلمين سواء كانوا بوشناقا أو غيرهم .

 

وإذا كان الكروات يستخدمون أسلوب التخدير، فإن الصرب لم ينفكوا يصرحون بما في عقلهم الباطن، وما يضمرونه للمسلمين ، من خلال الاحتفاظ بمنظمة التشتنيك. ففي الوقت الذي أعلن فيه وزير الامن فخر الدين رادونجيتش،أنه لا توجد منظمات شبه عسكرية في البوسنة، يؤكد شريط وثائقي يروج حاليا في البوسنة أن منظمة التشتنيك لا تزال قائمة، بل إن الاعلام الصربي يعترف بذلك من خلال بث شريط لاناس يلبسون أقمصة سوداء ، وأحذية وقبعات وملابس عسكرية، يرتديها التشتنيك الصرب في البوسنة، ودعوات للانخراط في هده المنظمة وبشكل علني . بل هناك حديث عن وجود 30 ألف منخرط في هذه المنظمة الارهابية التي ارتكبت جرائم ضد الانسانية أثناء العدوان على البوسنة . لكن الذي يدفع الثمن هم المسلمون ومن بينهم العرب، وقضية أبو حمزة السوري شاهد صارخ على ذلك  ، رغم إنه لم يكن مقاتلا بالمعنى الحقيقي بل كان في مجال الترجمة ، وبعض الأعمال اللوجستية بحكم تكوينه الدراسي كدارس طب . هذا الاختلال بين مناطق المسلمين الواقعة تحت المجهر العرقي والدولي ، وبين مناطق صرب البوسنة وكروات البوسنة التي لا يطبق فيها القانون ولا تخضع للدستور، بما في ذلك اتفاقية دايتون ، يؤكد على أن البوسنة لا تزال في حاجة للمساعدات من أجل ارساء العدالة أكثر من حاجتها للمشاريع الانمائية وتدريب عناصر المؤسسات المختلفة على السلوك القانوني .

 

ويتساءل كثيرون عن مستوى الاختراق الذي أحدثه الصرب والكروات داخل مسلمي البوسنة والهرسك لدرجة يصرح وزير الامن وهو صحافي بوشناقي من الجبل الاسود هاجر أثناء الحرب إلى البوسنة وحصل على الجنسية البوسنية وتمكن من إصدار جريدة سرعان ما أصبحت الاولى في البوسنة وهي دنيفني أفاز، ثم دخل مجال التجارة وأصبح مليونيرا في ظرف سنوات ، ويمكل ناطحات سحاب . وما علاقة هذه الثورة بذلك الاختراق ؟.. وبقطع النظر عما إذا الوزير لا يملك معطيات كافية، لاسيما من داخل صرب البوسنة، أو لأسباب سياسية ،أو اقتصادية لا سيما وأن بعض شركائه صرب، فإن الواضح أن تقييم رادونجيتش ليس صحيحا . كما أن تقييم وزارته ليس صحيحا لا سيما فيما يتعلق بالمقاتلين العرب، والملتزمين البوشناق، وتحديدا في ما يتعلق بأبي حمزة السوري .