لهذا تكون المحنة ولهذا تطول ..
15 رمضان 1434
يحيى البوليني

للمحنة في نفوس المؤمنين مكانة عظيمة , فبها يتميز المؤمن من المنافق وبها يميز الله عز وجل لنا الخبيث من الطيب , فما أعظم المحنة وما أهمها في حياة المؤمنين , فلولاها ما تمايزت الصفوف ولا ما تباينت القلوب ولما ظهرت الأنفس الطاهرة من الأنفس المدخولة التي تمتلئ بدخنها .

ففي الفترة المكية عامة ظل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في محن مستمرة من اضطهاد وتعذيب وكي بالنار وإهدار لكل قيمة , واستمرت المحنة فيها حتى ينقى الصف من دخلائه وحتى تستخلص الأنفس الطاهرة التي سيكون عليها عماد بناء دولة الإسلام .

وفي فترة خاصة وعلى مدى ثلاثة أعوام كاملة في مكة حُبس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعب أبي طالب وقطعت عنهم المؤن في حصار اقتصادي خانق وقاتل ضرب فيه أهل قريش وهم العرب المشهورون بالنجدة والشهامة والكرم بكل هذه المعاني ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جوعا وعطشا ولم يرقوا لبكاء طفل أو ألم امرأة في مشهد لم يكن له في العرب مثيلا .

ويأتي خباب بن الارت للنبي لكي يشكو له ما يحدث معه وليستحثه على الدعاء للمؤمنين فيطمئنه النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما هم عليه الآن هو عين الحقيقة الربانية , فلا تمكين بغير ابتلاء , ولا نصرة بغير تمحيص , ولا نصر بدون صبر عظيم , وليعلمه – وليعلمنا جميعا - بأن هذا هو الطريق بكل تفاصيله تلك هو طريق الأنبياء والصالحين المصلحين في كل زمان ومكان .

وفي غزوة الخندق تستمر المحنة قرابة شهر كامل بين الجوع والعطش والتعب والنصب والخوف , فزاغت فيها الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظن بعض المؤمنين بربهم الظنونا وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا بين خوف على دينهم من الضياع وخوف على نبيهم من القتل وخوف على أنفسهم كعصبة مؤمنة من الإفناء وخوف على نسائهم وذراريهم من الوقوع في يد الأعداء كإماء وعبيد ليذاقوا الهوان , بين كل هذه الآلام التي تمحص القلوب لتخرج من بينهم من قالوا إن بيوتنا عورة - ولم تكن عورة - وما كانوا يريدون إلا فرارا وهروبا لانخلاع قلوبهم وضعف أو انعدام إيمانهم .

وتطول المحنة لكي تنقطع العلائق من القلوب , حتى تخرج القلوب من المؤمنة منها كل تعلق بغير الله عز وجل , حتى تتيقن القلوب المؤمنة أنها لن تنصر إلا بمعية الله سبحانه , فلا تتعلق بأخلاق من يظنونهم على خلق من أعدائهم , ولا تنتظر نصرة من جماعات أو دول أو منظمات أو هيئات ستهب لنجدتهم أو تقف بجوارهم , فلا يتعلقون بشرق ولا بغرب ولا ينتظرون تصريحا ولا تلميحا وحتى ييأسوا من تحرك أي أحد من المخلوقين ليقدموا لهم نفعا أو ليدفعوا عنهم شرا , ولا ينتظروا حتى بني جلدتهم وإخوانهم في الدين والعقيدة أن ينصروهم , لكي يعلموا أن الأمة كلها لو اجتمعت على نفعهم بشئ لن ينفعوهم إلا بإذن الله سبحانه , ولو اجتمع كل من في الأرض على أن يضروهم فلن يضروهم إلا بما كتب الله عليهم .

وتطول محن المؤمنين في كل زمان أو تقصر بحسب بلوغهم هذه المرتبة , فكلما كان فيهم متعلقون بالمخلوقين طال أمد الانتظار وزادت التضحيات وكثرت الآلام حتى يتخلص آخرهم من التعلق بالبشر أو تتخلص منه الجماعة المؤمنة فلا يكون في صفهم , حتى يثبت مع الصف المؤمن اقله عددا وأخلصه قلبا , ثم يتنزل نصر الله عليهم حينما يشعر كل منهم بشعور الثلاثمائة الذين كانوا عدد جند طالوت وعدد جيش بدر , فحينها لا يُنظر إلى عددهم ولا عدتهم حينما يرجون لقاء الله لا يرجون النصر في الدنيا فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين .

لقد طالت محنة المسلمين في سوريا ولن ينتصروا إلا إذا اخرج من بينهم آخر من يتعلق قلبه بمجلس الأمن أو الأمم المتحدة أو الدول العربية أو الغربية .

ولقد بدأت محنة المصريين الذين يقفون من اجل عدم تسليم مصر الإسلامية إلى العلمانية من جديد , وطالت أيام انتظارهم وستطول حتى يخرج آخرهم من قلبه انتظار تصريح من الخارجية الأمريكية أو من أية دولة غربية أو أن يتغير موقف من مواقف الدول الشقيقة , ولن ينتصروا إلا إذا خلصت القلوب وعلمت أن كل الحلول التي ستأتيهم ليس لها إلا باب واحد وهو الله سبحانه وليس الشرق أو الغرب , فلا يهمهم تصنيف دولة لما حدث ولا يخدعنهم أنباء عن اختلافات قادة ولا تغرنهم ألفاظ معسولة من يمين وشمال .

وفي هذه اللحظة فقط يمكن أن يتنزل عليهم نصر الله سبحانه , حينما يصل الجميع إلى اللحظة التي يدركون فيها موقف النبي صلى الله عليه وسلم في غار ثور حينما أحاطت به الدنيا كلها وليست معه أية قوة مادية فقال لصاحبه " لا تحزن أن الله معنا " , وحينما يقفون موقف موسى عليه السلام حينما رأى جيش فرعون خلفه والبحر أمامه فجزع أصحابه وقالوا أنا لمدركون فهتف عاليا بكل يقين وثقة بالله " كلا .. إن معي ربي سيهدين " .
حينها فقط نرجو أن يأذن الله بنصر المؤمنين .