بلبلة في مقابلة أمواج التغريب
10 رمضان 1434
خالد بن صالح الغيص

بلبلة هنا... وبلبلة هناك..!! هذا ما نواجه به أمواج التغريب التي تجتاح الأمة، آخر تلك الأمواج: تغيير الإجازة في السعودية إلى الجمعة والسبت، فكثر الكلام!! فهذا يتكلم هنا وآخر يتكلم هناك،،،

 

بعد قراءات ومتابعات ومناقشات دارت حولي أردت أن أسطر هذه الكلمات، والتي أردتها مختصرة حتى يُكتب لها القبول والقراءة - بإذن الله - في زمن قلّ فيه من يقرأ من المسلمين فأمة "اقرأ" لا تقرأ، فزمن كتابة المطوّلات التي توضح المبهمات والمشكلات كما كان يكتبها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كاد أن يندثر.
وأسأل الله تعالى أن يوفقني في تحرير المسألة وبيان موضع الخلاف حتى نضع أيدينا على الجرح فيسهل العلاج.

 

تحرير موضع البلبلة والخلاف: بعد الاستقراء وجدت أن سبب تلك البلبلة أنّ هناك من لا يعرف أن أصل الدين الذي بُعث به النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الاستسلام والانقياد والطاعة الكاملة لله رب العالمين وأن يكون الدين والخضوع كله لله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (ص 28/544): فإنّ الله يقول في القرآن {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} والدين هو الطاعة فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله ولهذا قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} وهذه الآية نزلت فى أهل الطائف لما دخلوا في الإسلام والتزموا الصلاة والصيام لكن امتنعوا من ترك الربا فبين الله أنهم محاربون له ولرسوله إذا لم ينتهوا عن الربا، والربا هو آخر ما حرمه الله وهو مال يؤخذ برضا صاحبه فإذا كان هؤلاء محاربين لله ورسوله يجب جهادهم فكيف بمن يترك كثيرا من شرائع الإسلام أو أكثرها كالتتار.... انتهى، فمن لا يعرف أن هذه هي حقيقة الدين الذي بُعث به النبي صلّى الله عليه وسلّم تجده لا يريد أن يُستفتى علماء الإسلام ويعترض على ذلك ويقول: ما دخل علماء الدين في موضوع الاقتصاد وتغيير الإجازة؟! وما علموا أن الدين يُصبغ المسلم صبغة ربّانية كما قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]، فكل حياة المسلم وحركاته وسكناته لله كما قال جل وعزّ: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، فلا يخطو العبد خطوة إلا بعد أن يعرف حكم الله تعالى فيها وهذا معنى الإسلام والعبودية لله، وإذا حكم الشرع وجب الخضوع والانقياد والطاعة كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].

 

والإسلام هو دين الله إلى يوم القيامة، والمسلمون ليسوا كغيرهم من الأمم الذين كانت تسوسهم الأنبياء كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» رواه البخاري، فلا يقوم بأمر الدين وحماية حوزته بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا العلماء فهم ورثة الأنبياء وهم الذين ائتمنهم الله تعالى على ذلك كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]، وأوكل إليهم توضيح المسائل وحل المشكلات وردّ الأمة إلى الصراط المستقيم إن هي عدلت عنه، وأوجب على الأمة الرجوع إليهم كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، وأمرنا بطاعتهم كما قال عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، وأولو الأمر: هم العلماء والأمراء، وجعل كتابه وسنة نبيه هي الفيصل عند التنازع كما في الآية، فلا مناص بعد ذلك للمسلم إلا طاعة العلماء، ولنحسن الظنّ بعلمائنا فهم يقومون بواجبهم في حفظ الدين والدفاع عنه وردّ الناس إلى الحق الذي يدينون لله به وفق ما تقتضيه الضوابط الشرعية والأصول والقواعد المرعية، وأنهم لن يحرّموا على الأمة شيئاً من هوى أنفسهم، بل لو شذّ منهم أحد بقول لردّ عليه الآخرون لحفظ الله لدينه.

 

ولنضرب مثلا بالمسألة التي كانت سبب البلبلة: وهي تغيير الإجازة إلى الجمعة والسبت، فالعلماء قالوا كلمتهم: أنّ هذا لا يجوز لأنه جرٌ للأمة للتشبه باليهود، ومخالفة اليهود والنصارى أصل من أصول ديننا العظيم، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبالغ في مخالفة أهل الكتاب ويأمر بها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. (اقتضاء الصراط المستقيم، والحديث المقصود هو حديث معاشرة الحائض)، وأنّ ليس عند من يحاول موافقتهم في العطلة الأسبوعية إلا النظرة المادية ولم ينظر إلى الخسارة الدينية في ذلك (اقتباس واختصار من كتاب الدلائل الشرعية على تحريم موافقة اليهود والنصارى في العطلة الأسبوعية – والذي أنصح بقراءته).

 

هذا قول علمائنا استنادا للضوابط الشرعية والقواعد المرعية التي لا يعرفها كثير من الناس، فعلينا طاعتهم كما أمرنا الله بذلك، ومن لديه شبه فعليه الرجوع إليهم ليتبين له الحق خصوصا ونحن نعيش في عصر سهولة وسرعة نقل المعلومة والاتصال بالآخرين فلا حجة لأحد بعد ذلك والعلماء متوافرون ولا يجوز لأحد أن يثير الشبه ويشكك الناس ويؤلبهم على علمائهم.

 

والشبهة الرئيسة في هذه المسألة والبلبلة هي قول البعض: أنّ تغيير الإجازة هو في حقيقته مسألة إدارية واقتصادية بحتة وليس لرجال الدين دخل في ذلك استنادا لحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» رواه مسلم، فقد تكفّل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بالرد عليهم بقوله: فإن قال قائل: لهم في ذلك شبهة؛ وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، ورآهم يلقحون الثمار قال: «لو لم تفعلوا لصلح» فخرج شيصاً - أي فاسداً -؛ فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؛ قالوا: قلت كذا، وكذا؛ قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم»؛ قالوا: «والمعاملات من أمور الدنيا، وليست من أمور الآخرة». فالجواب: أنه لا دليل في هذا الحديث لما ذهبوا إليه؛ لأن الحادثة المذكورة من أمور الصنائع التي من يمارسها فهو أدرى بها، وتدرك بالتجارِب؛ وإلا لكان علينا أن نقول: لا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نصنع السيارات والمسجلات، والطوب، وكل شيء!!! أما الأحكام - الحلال والحرام - فهذا مرجعه إلى الشرع؛ وقد وفىّ بكل ما يحتاج الإنسان إليه. وقال في موضع آخر: ومراده أنتم أعلم بأمور دنياكم ليس بالأحكام الشرعية فيها، ولكن بتصريفها والتصرف فيها، فنحن أعلم بالدنيا من حيث الصناعة، أما من جهة الأحكام فهي إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا أخطأ من قال: إن الدين الإسلامي لا ينظم المعاملات، واستدل بهذا الحديث، فنقول: هذا خطأ عظيم، فالدين الإسلامي ينظم كل شيء؛ أليس الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى أن تباع الثمار قبل بدو صلاحها؟! أليس هو الذي قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها»؟! فهذه أحكام شرعية، لكن مسألة التأبير وعدم التأبير هذا داخل في الصناعة، وهذا يرجع إلى التجارب، والناس يعرفون إذا كانوا مجربين أكثر ممن لم يكن مجرباً. (نقلا من فتاويه).

 

وإذا احتاج العلماء في فتواهم إلى رأي أهل الخبرة فإنهم سيستشيرونهم قبل الفتوى ولذلك أمثلة كثيرة منها: مضار التدخين بالسيجارة فعندما قال أهل الخبرة من الأطباء أنّه مضرٌ، أفتى العلماء بالتحريم، فكان الرأي لأهل الخبرة والاختصاص وكان الإفتاء للعلماء، أما أن يتعدّ أهل الخبرة مقام العلماء فهذا لا يجوز، وعلينا أن نجلّ العلماء ونعرف فضلهم لأنهم ورثة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي مسألتنا هذه فقد قال العلماء كلمتهم وقالوا أنّ ليس عند من يحاول الموافقة في العطلة الأسبوعية إلا النظرة المادية ولم ينظر إلى الخسارة الدينية، والنظرة المادية في هذه الحالة ملغية لا اعتبار لها حفاظاً للأمة من التبعية للمغضوب عليهم أو الضالين كما حذرنا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ »؟! رواه البخاري.

 

والأمة موعودة بالفضل من الله تعالى والبركة إن هي اتبعت أمر الله وخالفت هدي المشركين كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28].

 

ومسألة تغيير الإجازة هي صورة من صور صراع العلمانيين الذي يحاولون تغريب الأمة مع علمائها، هذا الصراع الذي بدأً بالطّامة والداهية العظمى وهي إقصاء شرع الله عن الحياة والحكم بين الناس مروراً بإحلال الربا والاعتماد على التأريخ الميلادي وفرض الاختلاط وتغيير رسم الأرقام العربية إلى الرسم الإنجليزي...الخ، أقول هذا حتى لا يغرر بالمسلمين فيقال لهم: بأن مسألة تغيير الإجازة مسألة إدارية واقتصادية بحتة، بل هي حلقة من حلقات سلسلة طويلة من سلاسل التغريب، ولا يزال هذا الدين ظاهراً مادمنا مخالفين لليهود والنصارى كما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بقوله: "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون" رواه أبو داود وحسنه الألباني.

والله من وراء القصد،،،