قاعدة لا إيثار بالقرب
12 ربيع الثاني 1436
د. نايف بن جمعان الجريدان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن، أما بعد:
فقد ذكر الفقهاء والأصوليون قديما قاعدة (لا إيثار بالقرب) وتناقلها من بعدهم واشتهرت بينهم، حتى نقل بعهم إجماع الفقهاء عليها، ومن أولئك الإمام السيوطي –رحمه الله- الذي ذكرها في كتابه الأشباه والنظائر، وفحوى كلامه هناك أنه عدها قاعدة مسلم بها، ومتفق عليها، حيث قال –رحمه الله-: "الإيثار في القرب مكروه وفي غيرها محبوب، قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (1) ، قال الشيخ عز الدين: لا إيثار في القربات، فلا إيثار بماء الطهارة، ولا بستر العورة ولا بالصف الأول، لأن الغرض من العبادات: التعظيم والإجلال، فمن آثر به، فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه"(2).
ونجد كذلك الإمام النووي –رحمه الله- في شرح صحيح مسلم ينقل اتفاق أصحاب مذهبه على عدم جواز الإيثار في القرب، حيث يقول: "وقد نص أصحابنا وغيرهم من العلماء على أنه لا يؤثر في القرب، وإنما الإيثار المحمود ما كان في حظوط النفس دون الطاعات، قالوا: فيكره أن يؤثر غيره بموضعه من الصف الأول وكذلك نظائره"(3).
واستدل جمهور من قال بعدم جواز الإيثار بالقرب بما رواه البخاري بإسناده عن سهل بن سعد رضي الله عنه:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بشراب فشرب منه – وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ – فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحداً. قال فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده"(4).

إلا أن المتتبع لكلام بعض العلماء في هذه القاعدة يجد قولا أخر يقضي بجواز الإيثار في القرب، يستفاد من بعض النقول عن بعضهم ظاهرها رد هذه القاعدة، من ذلك:
- كلام الإمام ابن القيم –رحمه الله- حيث يقول: " وقول مَن قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقُرَبِ، لا يصح. وقد آثرتْ عائشةُ عمرَ بن الخطاب بدفنه فى بيتها جوار النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسألها عمرُ ذلك، فلم تكره له السؤال، ولا لها البذلَ، وعلى هذا، فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه فى الصف الأول، لم يُكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره. ومَن تأمل سيرةَ الصحابة، وجدهم غيرَ كارهين لذلك، ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرمٌ وسخاء، وإيثارٌ على النفس بما هوأعظمُ محبوباتها تفريحاً لأخيه المسلم، وتعظيماً لقدره، وإجابة له إلى ما سأله، وترغيباً له فى الخير، وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحاً على ثواب تلك القُرْبة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر، فبذل قُرْبةً، وأخذ أضعافها، وعلى هذا فلا يمتنع أن يُؤثر صاحب الماءِ بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو إذا كان لا بُد مِن تيمم أحدهما، فآثر أخاه، وحاز فضيلة الإيثار، وفضيلة الطُّهر بالتراب، ولا يمنع هذا كتاب ولا سُنَّة، ولا مكارم أخلاق، وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة، وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء، فآثر على نفسه، واستسلم للموت، كان ذلك جائزاً، ولم يقل: إنه قاتل لنفسه، ولا أنه فعل مُحَرَّماً، بل هذا غاية الجود والسخاء كما قال تعالى: {وَيُؤثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر: 9]، وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة فى فتوح الشام، وعُدَّ ذلك من مناقبهم وفضائلهم، وهل إهداء القُرَب المجمَع عليها والمتنازَع فيها إلى الميتِ إلا إيثارٌ بثوابها، وهو عَيْن الإيثار بالقُرَب، فأى فرق بين أن يُؤثره بفعلها ليحرز ثوابَها، وبين أن يعمل، ثم يؤثره بثوابها. وبالله التوفيق "(5).
- وقال ابن نجيم: "وَإِنْ سَبَقَ أَحَدٌ بِالدُّخُولِ إلَى الْمَسْجِدِ مَكَانَهُ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَدَخَلَ رَجُلٌ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا أَوْ أَهْلُ عِلْمٍ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَهُ تَعْظِيمًا لَهُ"(6).
وغير ذلك مما يفيد جواز الإيثار بالقرب عَمَلًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلُ تَخْصِيصٍ)
وحيال ذلك نقول:
"الإيثار بالقرب على نوعين :
النوع الأول : القرب الواجبة : فهذه لا يجوز الإيثار بها ، ومثاله رجل معه ماء يكفي لوضوء رجل واحد فقط ، وهو على غير وضوء ، وصاحبه الذي معه على غير وضوء ففي هذه الحال لا يجوز أن يؤثر صاحبه بهذا الماء؛ لأنه يكون قد ترك واجباً عليه وهو الطهارة بالماء ، فالإيثار في الواجب حرام .
وأما الإيثار بالمستحب فالأصل فيه أنه لا ينبغي ، بل صرح بعض العلماء بالكراهة ، وقالوا : إن إيثاره بالقرب يفيد أنه في رغبة عن هذه القرب ، لكن الصحيح أن الأولى عدم الإيثار ، وإذا اقتضت المصلحة أن يؤثر فلا بأس، مثل أن يكون أبوه في الصف الثاني وهو في الصف الأول ، ويعرف أن أباه من الرجال الذين يكون في نفوسهم شيء إذا لم يقدمهم الولد ، فهنا نقول : الأفضل أن تقدم والدك ، أما إذا كان من الآباء الطيبين الذين لا تهمهم مثل هذه الأمور فالأفضل أن يبقى في مكانه ، ولو كان والده في الصف الثاني ، وكذلك بالنسبة للعالم . والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين"(7).
وأما ابن القيم –رحمه الله- فكلامه يختلف في بعض كتبه وقد تكلم عن القاعدة في عدد من كتبه كزاد المعاد ومدارج السالكين والروح وطريق الهجرتين وكلامه في الزاد هو ما نقلته الأستاذة أم طارق وهو في بقية الكتب الأخرى يقرر ما اشتهر من قول الفقهاء من التحريم أو الكراهة ويذكر جواب أهل العلم عن إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر رضي الله عنه بأن الميت لا قربة له بعد الموت فهذا ليس من الإيثار في القرب ويقرر في مدارج السالكين ان هذا ما عليه الصحابة رضي الله عنهم وهو عدم الإيثار وأنهم يتسابقون لذلك .
وربما يكون الإيثار سائغا في مواضع منها :
- أن يكون في الإيثار مصلحة أعظم من مصلحة .
- أن تكون القربة تسع الاثنين أو أنها لا تفوت(8) .
--------------
(1) من لآية رقم (9) من سورة الحشر.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص (116).
(3) شرح النووي على مسلم (13/201).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب كِتَاب المَظَالِمِ وَالغَصْبِ ، باب بَابُ إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ، (3/130)، رقم (2451) ، ومسلم في صحيحه، في كتاب الأشربة، باب بَابُ اسْتِحْبَابِ إِدَارَةِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِهِمَا عَنْ يَمِينِ الْمُبْتَدِئِ، (3/1604)، رقم (2030).
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد (3 / 506).
(6) البحر الرائق شرح كنز الدقائق (3 / 419).
(7) لقاءات الباب المفتوح، للعلامة ابن عثيمين –رحمه الله-، اللقاء/35 ص 22
(8) ينظر: بحث خاص عن هذه القاعدة لـ: أ . د . صالح اليوسف منشور في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد ( 72 ) وبحث عن الإيثار للشيخ أ. د . صالح الجديعي ، منشور في مجلة العلوم الشرعية في جامعة القصيم في المجلد الأول / العدد الأول .