8 ذو الحجه 1434

السؤال

أنا فتاة عمري 30 عاما وأحمل شهادة الماجستير في هندسة البرمجيات، وأعمل في شركة اتصالات، بعد تخرجي تقدم لي شاب ليس من بلدي، بل من دولة مجاورة ولكنه يعيش في بلدي، وهدا الشاب على خلق، ومثقف جدا ومتعلم، وميسور الحال، وأبي وأخي لم يرفضاه ولكن أمي اعترضت بحجة أن هذا عار ويسيء لسمعة العائلة، وسيجعل الناس تتكلم عنا لأنه ليس من نفس البلد ولا يحمل نفس الجنسية، فحزنت وبكيت انصرف الشاب عن خطبتي وخطب فتاة أخرى، ولكنه لأسباب عائلية لم تستمر هذه الخطبة، فتقدم لي للمرة الثانية ومع ذلك أصرت أمي على رفضها، وأقنعت والدي بالرفض للأسباب نفسها، وبعد سنوات تقدم هذا الشاب لخطبتي للمرة الثالثة، وخلال تلك السنوات التي مضت لم يتقدم لي أي شاب من بلدي مع أنني ذات جمال، ولكن هدا ما حصل، وعندما تقدم لي هذا الشاب للمرة الثالثة ضربوني ضربا شديدا، حتى أن أمي سمحت لأخي الصغير بضربي وكأنني ارتكبت حراما....
وأنا حاليا أشعر بالحزن الشديد، لأنني أدركت الثلاثين من عمري، ولم يتقدم لي أحد، وأخشى أن يتخلى عني هذا الشاب ويتزوج من امرأة أخرى، بسبب إصرار أسرتي على رفضها، وقد حاولت كثيرا أن أشغل نفسي وأتحدى هذا الواقع الأليم، وتحملت تصرفات أمي وقسوتها، واشتغلت في أفضل شركة وتعلمت أحسن تعليم،، ولكن نفسيتي تعبت وأشعر بالفراغ والوحدة القاتلة، ولم أعد أتحمل لا تصرفات أمي الصعبة، ولا أريد لا عملا ولا تعليما، بل كل ما أتمناه أن أتزوج وأعيش حياة مستقرة وهادئة، وأشعر بالطمأنينة، وبالحنان والدفء الأسري..

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أختي السائلة الكريمة، بداية أشكرك على رسالتك، وعلى ثقتك وطرحك لاستشارتك، وفقني الله لأقدم لك حلولا مرضية تخلصك من معاناتك..
أما بالنسبة لمشكلتك فألخصها في أمور منها:
ـ رفض أسرتك خصوصا والدتك زواجك من شاب يحمل جنسية غير جنسيتك مع أنه رجل كفؤ ماديا واجتماعيا وعلما وسلوكا..
ـ إصرار والدتك على رفضها لزواجك من هذا الشاب على الرغم من تقدمه لخطبتك ثلاث مرات..
ـ تدهور حالتك النفسية، وشعورك بالاكتئاب والوحدة والفراغ من قسوة والدتك وشدتها، ورغبتك في الخلاص من هذا الواقع، وإقامة أسرة مستقرة وبناء حياة زوجية سعيدة..
أما الحلول التي أجدها مناسبة لمشكلته فهي كما يلي:
بداية أقول لأختي الكريمة.. للأسف ما زالت فتياتنا وشبابنا المسلم في مجتمعاتنا العربية يعانون من استبداد الأسر وتحكُّمِهم في مصير أبنائهم، ومعارضتهم لزواجهم وعدم تيسير أمورهم لأتفه الأسباب سواء كانت مادية أو معنوية، بل من الآباء من قد يُخطئ في اتخاذ قراراته بشأن مصالح أبنائه، ويخطئ بشأن طريقة معاملتهم وتربيتهم، فيتحَكَّم في اختياراتهم وقراراتهم وأسلوب حياتهم، وحتى بشأن زواجهم، وهذا قد يَحمِل بعضهم على فَرْض رأيهم بذريعة أنهم أَدْرى بما فيه الخير لهم، فيَضُرُّون بمصالحهم وإن كان يَرومون إيصال الخير والنفع إليهم " رامَ نَفْعاً فَضَرَّ مِن غير قَصْد.. ومِن البِرِّ ما يكون عقوقا "
وهذا يتسبب في الرفع من مستوى العنوسة والعزوف عن الزواج، وبالتالي انتشار الفساد داخل المجتمع، وسلوك الشباب سبل الحرام لتلبية احتياجاتهم الفطرية، وتفريغ رغباتهم الملحة بطرق غير مشروعة..

ثانيا: أعتقد بأنك أختي الكريمة قد أدركت ما أدركته من مكانة علمية ووظيفة سامية، ولكنك للأسف قد فشلت في أن تفرضي احترامك وتقدير شخصيتك ومكانتك داخل أسرتك، وفقدت معها سلطتك العلمية والثقافية، فصار لا فرق بينك وبين إنسانة أخرى لم تحصل على شهادة علمية، ولم تعمل ولم تخرج للمجتمع وتفرض ذاتها واحترامها على من حولها..
وهذا ليس عتابا ولا اتهاما لشخصيتك بالضعف، بقدر ما هي محاولة لمساعدتك في فهم أسباب مشكلتك الحقيقية، واكتشاف أسباب معاناتك، فقد أثار انتباهي وأنا أقرأ رسالتك مسألة مهمة جدا وهي: عدم وجود استقرار عاطفي ودفء أسري، إضافة إلى افتقادك للحنان وللعطف وللحب داخل أسرتك، وغياب سلطة أبوية رشيدة تحسن إدارة البيت واختلال توزيع السُّلَط:
ـ فهناك سلطة الأم التشريعية المتحكِّمَة في اتِّخاذ القرارات ومنها قرار الموافقة أو الرفض بشأن زواجك.. وسلطة الأب التنفيذية وهي تابعة لسلطة الأم، وهي سلطة رادِعَة تتمثل في العقاب والضرب للتَّحَكُّم في إدارة شؤون الأسرة بيدٍ من حديد، أما سلطة الإخوة الذكور فهي تابعة للسلطتين معا، لها صلاحية العقاب والردع والتَّحَكُّم بقرار ومصير زواجك، وإلزامك قسرا الخضوع لاختياراتهم وقراراتهم ولو كانت ظالمة مستبدة بحقوقك المشروعة..
فأين تظهر سلطتك داخل أسرتك وكيف تمارسينها؟ وكيف يتحكم بقراراتك واختياراتك المصيرية كل أفراد أسرتك من الأم ثم الأب حتى أصغر إخوتك الذكور يمارس سلطته عليك ويعاقبك بالضرب مع أنك الأكبر منه سنا وأنت الفتاة المسلمة القوية بإيمانك وبعلمك وثقافتك؟
هذه التساؤلات أطرحها عليك لتكتشفي بنفسك موطن الداء فيسهل عليك العلاج، الذي يحتاج منك إلى اتباع الإرشادات التالية:
ـ ابتداءً احْرِصي على طاعة الله ومرضاته، وأَصْلِحي ما بينك وبين الله يصلح ما بينك وبين أهلك، واسْتَخيري الله في أمر زواجك بهذا الشاب، وصَلِّ ركعتين خالصتين لله، بنية صلاة الاستخارة، وادْعِ بعدها بدعاء الاستخارة لقضاء حاجتك، وأَكْثِري من الإلحاح على الله بالدعاء والصلاة ليشرح صدر أمك ويهديها، وينير بصيرتها فتقبل بزواجك من هذا الشاب..
ـ أعيدي النظر في علاقتك بأسرتك، وصحِّحي ما يمكنكِ تصحيحه من خلل، واكْسِري الحاجز الذي يفصل بينك وبينهم، واجْتَهِدي في تغيير نظرتهم إليك، وافْرِضِي احترامك عليهم بثقافتك وعلمك، وبعقلك الرشيد ورأيك السديد وحكمتك وذكائك، فأنت لديك من المؤهِّلات العلمية والوظيفية ما تلزمهم الإنصات لآرائك وأفكارك، والإذعان لقراراتك واختياراتك ما دامت مشروعة ومن حقوقك الواجبة..
ـ اكْتَسِبي ثقتك بنفسك داخل أسرتك كما اكتسبتها من المحيطين بك في عملك وخلال مراحل دراستك.. واثْبِتِي لأسرتك أنك تستحقين هذه الثقة وهذا الاعتزاز بنفسك وكرامتك، وبَرْهِني لهم على قوة شخصيتك قولا وفعلا وسلوكا يوميا، وتشبثي باستقلالك في الاختيار واتخاذ القرار فيما هو من حقوقك التي خوَّلَها لك الشرع.
ـ اجْلِسي مع والديك واحْرِصِي على أن تكسبي مودَّتهم ورحمتهم، ومحبَّتهم ورِضاهم عنك وثقتهم بك، وأَقْنِعيهم بهدوء برغبتك في الزواج من هذا الشاب، وحاوريهم بالعقل والحكمة والموعظة الحسنة بضرورة موافقتهم على زواجك ومباركته، وصارحيهم بمعاناتك النفسية، وبِّيني لهم أن مدار قبول الخاطب شرعا لا يقوم على ـ ما هي جنسيته أو بلده أو من أي قبيلة أو عشيرة ينتمي إليها ـ بل على أمرين هما: أن يكون مَرْضِيّ الدِّين، وأن يكون مَرْضِيّ الْخُلُق، وما دام من تقدم إليك هو شاب كفء قد توفرت فيه الشروط الشرعية فعليهم واجب القبول به، لأن من مُقتَضى الإيمان الاستسلام والتسليم لله عز وجّل، وإتباع رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي جاء في حديثه: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)، وأن ردّهم لهذا الخاطب هو ردّ لأمره صلى الله عليه وسلم، وسبب من أسباب إثارتهم الفِتنة مصداقا لقوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا)
ـ اسْتَعيني بما يمكن الاستعانة بهم من الأقارب، والأرحام، والأهل، والأصدقاء، والجيران، ومن تثقين بنزاهتهم وبعلمهم من شيوخ البلد وفقهائها وعلمائها، واخْتاري منهم حَكَمًا بينك وبين أهلك، لإقناعهم بوجوب المسارعة بتزويجك من هذا الشاب ما دام كفؤا وليس فيه ما يشينه، ويجمع ما بين صلاح الدين والعلم والقدرة على توفير الحياة الطيبة الكريمة، ووجوب إتباعهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وأحمد وغيرهما عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤاً)
ـ وفي حالة ما إذا عَدِمت كلَّ الحلول الممكنة في إقناع أهلك بالموافقة على هذا الزواج، وخشيت على نفسك العَنَت أو الوقوع في ارتكاب ما حَّرم الله، ولم يعد عندك طاقة نفسية أو صحية للصبر ولتحَمُّل معاناتك من تأخُّر زواجك وانتهاك أهلك لحقوقك الشرعية، هنا يجوز لك شرعا أن تختاري من الأولياء غير والدك لتزويجك إذا ثبت عَضْله، وتكرَّر منعه من تزويجك ممن هو كفء بغير عذر شرعي وتسقط ولايته، كما يجوز لكِ أن ترفعي أمرك إلى القاضي الشرعي ليتولَّى اختيار ما يناسبك من الأولياء، أو أن يتولَّى هو بنفسه أمر تزويجِك..
وبكل الحالات أختم فأقول لأختي الكريمة: اجتهدي في كسب رضا أهلك وخاصة أمك، وإذا لم تستطيعي ذلك بنفسك ولا بالاستعانة بغيرك، فما عليك إلا أن تقدِّمي رضاهم ورضا أمِّك وطاعتهم على رضا نفسك ورغبتك وهواك، وثقي بأن الله لن يتخلَّى عنك، وأن من ترك شيئا لله عوَّضَه خيرا منه، فمن باب أولى أن تتنازلي عما يرضيكِ ما دام ليس فيه ضررا بالغا يلحقك، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}.. ولا تقاطعي أمك ولا أهلك بسبب هذا الزواج، حتى لا تحرمي نفسك من برِّ والديك ورضاهم عنك، ولا تجبريهم على ما يكرهونه، لأن الزواج بغير رضا الأهل ومباركتهم يترتب عليه في الغالب خسائر جسيمة، ويتسبَّب في إثارة المشاكل والمعاناة الأسرية وقطع صلة الأرحام، وكثير من حالات الزواج انتهت بالطلاق نتيجة الاستعجال ومعارضة الأهل.
أسأل الله العلي القدير أن يشرح صدر أمك لقبول هذا الشاب، إذا كان فيه خير لك في دينك ومعاشك وعاقبة أمرك عاجله وآجله، وأن ييسر الله لك أمر الزواج وأن يعفك ويحصنك ويحميك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقك زوجا صالحا يكون عونًا لك على طاعة الله ومرضاته..