تونس: مدارس اسلامية عريقة تحولت إلى مكاتب إدارية ومعاهد موسيقى
27 جمادى الثانية 1434
عبد الباقي خليفة

مدرسة الغرياني كان لها أوقاف وعقارات وإمكانيات مادية كبيرة صودرت في العهد البورقيبي

تنتظر العديد من مباني الأوقاف والمعالم الحضارية الراقية التي كانت تشع نورا في تونس ومنطقة المغرب الكبيراستعادة دورها التاريخي المجيد بعد مضي عامان على الثورة التونسية، وذلك بعد أن تم تحويلها في الحقب السابقة ( عهد المخلوعين بورقيبة وبن علي ) منذ الاحتلال الفرنسي لتونس وحتى 14 يناير 2010 م ( ولا تزال ) إلى مكاتب إدارية ومعاهد موسيقى كما شاهدنا في معلم عمر عبادة وغيره، ولم يسلم من ذلك حتى المساجد والمدارس الإسلامية والأوقاف التابعة لها، وللعديد من المرافق الثقافية والإجتماعية الأخرى. ومن ذلك المدرسة الزليجية، ومدرسة الوحيشي، والمدرسة الخودية، التي تحولت إلى مقر للمندوبية الجهوية ( للثقافة !) بالقيروان، والمبنية على النمط المعماري الاسلامي العريق فهي في شكل مربع تقريبا تتوسطها ساحة وفي جنباتها توجد أقسام الطلبة التي تحولت إلى مكاتب إدارية، ولا يزال المكان محافظا على طابعه التقليدي، وتتكون المدرسة من سقيفتين، إحدهما تتوسطها قبة هرمية من الخشب، بينما تعضد أبوابها سواري من الرخام، والثانية مستطيلة مسقوفة بالعقود المتقاطعة من الآجر( الطوب ) وهي محمولة على سواري رخامية ووسادات خشبية وتيجان حفصية( نسبة للدولة الحفصية في تاريخ تونس) وهي أيضا من الرخام. وقد أثبتت الدراسات العلمية أن استخدام الخشب في البناء أفضل من الاسمنت المسلح، ( كوسادة بناء ) وتعتمد اليابان حاليا على هذه التقنية لتخفيف حدة الضغط، فالخشب يتمطط ويحافظ على ليونته، وهذا ما نشاهده مثلا في بناء جامع عقبة بن نافع.

 

جريمة تجفيف الينابيع: أما صحن المدرسة  الخودية فتحاط به أروقة جميلة الشكل، وغرف الطلبة، سواء المعدة للدراسة أوالنوم. وقد استمرت المدرسة في أداء رسالتها،إلى أن بدأت سياسة تجفيف الينابيع ، فأهملت واستولى عليها بعض المنحرفين، بعدها تقدمت دولة ( الإستقلال لإنقاذها ) وتحويلها إلى إدارة محلية وليس كما كانت ولما أوقفت من أجله، حتى المسجد تم تحويله ولكن لا نعرف لماذا؟ ويخشى أن يكون تحول إلى حمامات .
كما نلاحظ في المدرسة فن النقش على الخشب، والذي يبدو أكثر وضوحا في معالم ثقافية أخرى ذوت بعد سالف العظمة.

 

ويربط هذه المدارس شوارع وأزقة وصباطات وتتخلل هذه الشوارع زنق مختلفة، وقد مررنا ببعضها قبل الوصول إلى جامع ابن خيرون، أوالمسجد ذوالثلاثة أبواب، وهو المسجد الوحيد الذي يدخل المصلون إليه من ثلاثة أبواب لا تفصل بينها سوى سواري من الطوب، وفي أعلى الأبواب آيات من الذكر الحكيم من صورة الأحزاب "يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله قولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله والرسول فقد فاز فوزا عظيما" لكن بقية الآية تم محوها وهي" ومن يطع الله والرسول فقد فاز فوزا عظيما" ويطالب الأهالي بإعادة الكتابة كما كانت، رافضين تبريرات نزعها وهو بناء المئذنة ، ويقول أحد الأهالي ويدعى وحيد العبيدي، أن الأبواب الثلاثة ترمز" للايمان والاسلام والاحسان" وأنه "يمكن اكمال الآية على جدار المئذنة " وقد كتبت بالكوفية وبزخارف نباتية وزيتية ، وهو من المساجد النادرة في العالم الاسلامي.

 

مساجد تحولت لمكاتب إدارية: ومن المدارس التي تم انتزاعها بعد إلغاء الأوقاف، مدرسة عبيد الغرياني ، التي تعود للعهد الحفصي، ومن ثم العثماني، ولا تزال رغم العبث الذي طالها على مدى عقود خلت محافظة على طابعها المعماري الأصيل، ويتم استخدامها حتى زيارتنا كدائرة بلدية. وكانت منارة لتعليم القرآن الكريم، وبها مسجد يستخدم كقاعدة اجتماعات رغم خلوه من الكراسي. والمبنى كما ذكر الخبير في الآثار زهير الشهايبي" للمسلم" وفي صحن المدرسة، ماجن كان يستخدم لجمع مياه الأمطار عن طريق السطوح والموازيب وغيرها، لا سيما عندما كانت الشوارع نظيفة وليست كما كانت إلى عهد قريب، بل إلى اليوم .

 

وكان من المحزن والمخجل في نفس الوقت أن نلاحظ في مدرسة عبيد الغرياني، التي تعود للقرن الرابع عشر، وفي المسجد طاولة تسد ما بين الباب والمحراب، وقد قيل لنا أنها غرفة اجتماعات ل( مقر جمعية صيانة مدينة القيروان)! و( الإدارة الجهوية للمعهد الوطني للتراث ) وذلك في سبعينات القرن الماضي!.

 

 تحيط بالمسجد المعطل والمستخدم في غير ما بني من أجله ( الصلاة وتعليم القرآن ) أروقة وثلاثة مجازات ومحراب يحيط به الرخام على طريقة الأندلسية أي بالأسود والأبيض. وتتقدم الصحن سقيفة متعرجة تكسوها قطع الفسيفساء، والنقش على الجص، بينما سقوفها من الخشب المطلي بالزيت، ويلاحظ الزائر حضور كثيف للرخام في جنبات المدرسة.وتعلو احدى غرف المدرسة قبة لولبية نادرة ، وتكسو الجدران مربعات الجليز، مرفوعة على رافعات خشبية مطلية ومزخرفة ومنقوش عليها آيات من القرآن الكريم. ويغطي السقيفة سقف جميل مدهون على الطراز الأندلسي وهي تفتح على صحن يكسوه الرخام مزين بزخارف هندسية رائعة. وقد ظهرت هذه الطريقة منذ العهد الحفصي، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجري، السابع عشر والثامن عشر الميلادي. وتحيط بالصحن أربعة أروقة تكسو حيطانها لوحات من الجص ومربعات من الخزف، ويتركب كل رواق من ثلاثة عقود نصف دائرية، وتمتد فوقها ممرات تغطيها سقوف خشبية أفقية يركبها على مستوى الشرفات القرمود الأخضر الذي رصف جميعه على نحو رائع من التناسق الذي يحترم النسق فيما بين العقود ومختلف الخطوط والحقيقة أن كل شئ في هذا المعلم يوحي بأنه من إنشاء مهندس بارع محكم الصنعة متقن في عمله وفي أقصى الرواق الجنوبي الشرقي توجد بيت للصلاة تتكون من ثلاث بلاطات تتعامد معها ثلاث مسكبات ويمثل هذا الشكل التخطيط التقليدي الذي يظهر في العديد من المساجد الإسلامية.

 

تمويل غربي:  وكان المسجد إلى جانب كونه بيتا للعبادة، غالبا ما تتم فيه وظيفة التدريس ولا سيما حفظ القرآن الكريم ، وحلقات العلم المختلفة . وكانت مدرسة عبيد الغرياني، تمتلك أوقافا وهي عبارة عن عقارات وتنعم بامكانيات مالية ضخة ،وومن مصارف أوقافها التكفل بالطلبة ومنح الصدقات للفقراء. لكن أول حكومة في تونس بعد الاحتلال المباشر لتونس، قامت بمصادرة الأوقاف ، وتحويل ممتلكاتها إلى ممتلكات دولة ما لبثت أن تعرضت للنهب والتقسيم بين مافيا الحكم على مدى يزيد عن نصف قرن .وقد زادت تقنية النقش على الخشب، التي يلحظها الزائر على أبواب المسجد، على أهمية تلازم العلم الشرعي مع المهن المنتشرة في كل عصر، وحرص المؤمنين على التآسي بأنبياء الله ، فكل عالم أو داعية كان يجيد حرفة أو مهنة يستعين بها على دنياه، كما يستعين بالتزام الدين وتبليغه والالتزام به فهما وعبادة وسلوكا على آخرته . وقد قضى النظام السابق على هذه المزية التي كان العلماء يتمتعون بها، وهي الجمع بين حمل العلم الشرعي واتقان مهنة للعيش، فكانوا عدولا في العلم ومبدعين في الصنعة التي امتهمنوها مثل عبيد الغرياني الذي كان حدادا لكنه حول أدواته لتحف ذات بعد روحي وفلسفي عميق .

 

وقد استرعى انتباهنا، ونحن نطوف بعض هذه المدارس وهذه الأوقاف وهذه المعالم بعد غياب زاد عن 20 سنة، وقد كتب على لوحات أنه تم تحويلها بتمويل من الاتحاد الاوروبي. والحقيقة أن بعض هذه المعالم تم تغيير وجهتها ورسالتها وهويتها منذ السبعينات ولكننا لم نقف على الخراب الذي لحق بها سوى بعد العودة من هجرة قسرية زادت على العقدين، وهوما يوحي بأن الدمار الذي تعرضت له تونس على الصعيد الثقافي أكبر مما يبدو وأكبر من الحصر. لقد سمعنا كثيرا عن الإجراءات التي تم اتخذها في الدول الشيوعية وبالأخص في ما يكن يعرف بالاتحاد السوفياتي، وأوربا الشرقية ، والصين، وكنا نتحدث عن ذلك في مجالسنا وفي المساجد وفي اللقاءات الخاصة، بينما كانت تونس قد شهدت وتشهد في ذلك الحين وبعده ما هو أفضع من ذلك، ولا سبيل للحديث عن تجاوز آثار الخراب دون إعادة الاعتبار للمعالم المصادرة والمحولة لغير وظيفتها التي بنيت وأوقفت من أجلها سواء كانت مساجد أومدارسأو غيرها. وتدور حاليا في تونس معارك وصل بعضها للقضاء حول هذه المساجد بين من يدعو لاعادتها لمهمتها الاصلية ولما أوقفت من أجله ، وبين من اسأجروها ويستغلونها لأغراض أخرى.