زخم الثورة المضادة يهدد بابتلاع ثورة 25 يناير
14 جمادى الثانية 1434
علا محمود سامي

أثارت المشاهد التي بدا عليها الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في وقائع محاكمته بالنسخة الثانية من قضية قتل المتظاهرين، والمتهم فيها هو وآخرين، العديد من علامات الاستفهام حول الدور الصلب الذي تقوم به الثورة المضادة إزاء ثورة 25 يناير، والتي يبدو خلالها أن أذناب المخلوع لم يهدأوا بعد، وأن هدفهم لم يتراجع قيد أنملة، وهو إعادة إنتاج النظام السابق، ولو بصور مختلفة.

 

ظهور مبارك ، بإشاراته وتلويحه لأنصاره ، وهو في قفص الاتهام له الكثير من الدلالات التي تتجاوز سجينا يواجه عقوبة المؤبد أو الإعدام في قضية جنائية بتهمة قتل متظاهرين سلميين، إلى لقطات تعلن التحدي بعينه، تأكيدا لما توقعه في خطابه الثاني إبان الثورة بأن المصريين إذا ما عزفوا عن شرعيته ، فإن الفوضى ستواجههم، وستدب في أوصالهم.

 

بدا الرئيس المخلوع، وكأن ثورة لم تقم لإسقاطه..وكأن الشعب لم ينتفض على ممارساته..بل وكأن ما ساهم في إثارة البغضاء والشحناء بين أبباء الوطن الواحد، هو درب من الخيال.. ظهر وكأنه ما ارتكب في حق شعبه العديد من المآسي، فأحال حياتهم إلى جحيم، يسددون فاتورته حتى اللحظة من حنق بين فقراء وأثرياء..وكأنه ما خلف لمؤسسات بلاده فسادا تراكم على مدى ثلاثة عقود، حتى أصبحت رائحته تزكم الأنوف.

 

ظهر المخلوع، وكأن شيئا مما سبق وغيره لم يحدث، فظهر وهو يرسم ابتساماته، ويلوح بإشاراته ، وكأنه يؤجل أن يلوح لهم تاليا بعلامة النصر، إلى حين إعلان براءته من كل ما فعله بحق مصر والمصريين، وغازله في ذلك من يدعون الثورة، بدعوى أن أيام مبارك أرحم بكثير من حكم الإسلاميين، بعدما ساهم دعاة الثورة في تشوية نظام الحكم القائم، ونصبوا له الفخاخ، طمعا في إفشاله، ليترحم المصريون على أيام المخلوع.

 

لهذه الدرجة فهم رفقاء الثورة المعارضة والممارسة الديمقراطية،  بأن إعادة استنساخ نظام مبارك ليس شرا محضا، بل أنه قد يكون لهم بمثابة طوق النجاة من حكم الإسلاميين، حتى لو كان الرئيس القائم منتخبا، وبإرادة شعبية حرة ، في أول انتخابات نزيهة من نوعها في تاريخ مصر القديم والحديث. ففي الوقت الذي حصد فيه الدكتور محمد مرسي على أكثر من 13 مليون صوت انتخابي بإرادة حرة لمن انتخبوه، فقد حصد مبارك - في آخر انتخابات جرى تزويرها وبكل ما أوتي النظام وقتها من قوة ناعمة وجريئة للتزوير والتزييف- على 6 ملايين صوت في العام 2005، عندما جرت انتخابات رئاسية، كان الزيف شعارها، وتعددية المتنافسين  افتراءها بامتياز.

 

تلويح مبارك وحالة التماسك التي ظهر عليها هو ونجليه على خلاف المرة الأولى من محاكمته في العام الماضي، لها العديد من الدلالات وتتجاوز حجم الإشارة والتلويح، إلى أن الثورة المضادة أصبحت تستأسد وتصوب هدفها وتسدد رميتها في الموضع الذي تستهدفه، وأنها حتى اللحظة وإن خسرت قليلا، فإنها ستكسب بعد ذلك كثيرا، ليس بالضرورة أن يعود مبارك، ولكن حتما سيعود نظامه.

 

هكذا تفهم وتعمل الثورة المضادة، بعدما تآمر كثيرون على الثورة الأم، بدعوى إسقاط حكم الإسلاميين، ومعهم إسقاط شرعية الرئيس، وفي سبيل ذلك استفادت الثورة المضادة من كافة تداعيات المرحلة الانتقالية إبان المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وحتى بعد الاستحقاق الرئاسي، فعملت بعد ذلك على تنظيم صفوفها، وسعت وفق منظومة متعددة الاتجاهات ، هدفها بالأساس إسقاط الرئيس، وإجهاض أي مشروع إسلامي للإصلاح، ومضت في طريقها مستخدمة الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، بل والثوار وجماعات المصالح أنفسهم، ويكاد يكون لسان الحال ينطق بأنها تستخدم كل مفاصل الدولة لتحقيق أهدافها، والأبرز فيها إعادة إنتاج النظام السابق، وإن اختلفت أقنعته.

 

في هدف هذه الثورة ليس بالضرورة أن يعود مبارك أو نجله، ولكن تعود جماعات المصالح ومؤسسات الفساد، وممارسات الشرطة القمعية، إذ أن الأمر يتجاوز نظاما حاكما إلى مصالح دول ومخططات إقليمية ودولية، وأجهزة مخابرات عالمية تعبث بأمن مصر القومي بكل مكوناته وأبعاده.

 

كل هذه الدلالات تكشف حجم ومخطط ما يدار لمصر، وما يستهدفها، وتتعاظم الأهداف، وتشعر الثورة المضادة بأنها تكسب مزيدا منها عندما تجد أن النظام الجديد يتمادي في أخطائه، ويغض الطرف عما ينبغي أن يكون ، ليصبح نظاما قويا ، فالحق بمفرده لايبني دولة، ما لم يكن معه قوة تحميه.

 

ومن ثالثة الأثافي، أن نظام الرئيس مرسي، ومع كل أمانته وإخلاصه- ونحسبه كذلك- فإنه لايزال يفتقر للقوة ، التي لايمكن بدونها ترجمة هذا الإخلاص الى واقع عملي يحقق أهداف ثورة 25 يناير، فالنوايا الحسنة لا تبني بمفردها أمما ، ما لم يتم ترجمتها بعمل، وأي عمل.. إنه العمل القوي والجاد، الذي يدرك حجم ما يخطط ويدبر له ولوطنه، فالخطب جلل ، وأبعد مما كان يتصوره الرئيس مرسي نفسه، عندما قال هو وعدد من فريقه الرئاسي بأنهم ما كانوا يتصورون كل هذا القدر من الفساد، لولا ما لاحظوه بالفعل، عندما أصبحوا في سدة الحكم.

 

ولعل هذا يعجل بأن تكون هناك خطوات وقرارات ثورية وجادة، تنطلق من الثورة ذاتها، التي دفعت به إلى كرسي الرئاسة، فلولاها ما كان رئيسا، وما مثل الإسلاميون نظاما، خاصة وأن المصريين أنفسهم يتوقون إلى إنهاء أوضاع اقتصادية مريرة ، يزايد عليهم بها الساسة لإسقاط النظام الجديد.

 

إن الأمر أوسع من إسقاط رئيس منتخب، وإجهاض مشروع إسلامي، والحيلولة دون ثورة شعبية تحقق أهدافها، قد يكون كل ذلك هدفا لكل ما يخطط ويدبر، ولكن الهدف الأبرز هو إسقاط مصر الدولة بكل مقومات الدولة، وإقحامها في أتون حروب طائفية وأهلية ومجاعة اقتصادية، في محاولة لتغيير موازين القوى في المنطقة، وتغيير عقيدة المؤسسة العسكرية القائمة على العداء للكيان الصهيوني، ولتصبح مصر الدولة العربية والإسلامية الكبرى ، أقل من أن تكون دولة هامشية، وليس من قبيل المبالغة أن ضعف مصر عربيا وإسلاميا يعد تقزيما من أدوار عربية وإسلامية.

 

فهذا قول حق ، لا مراء فيه يعترف به القادة العرب والمسلمون أنفسهم، غير ناكرين لدور مصر وأن مصدر قوتهم في قوة مصر، حتى الدول التي لم تصبها الثورات يذكر قادتها هذا القول، الأمر الذي يعكس خطورة ما تحياه مصر، وما يخطط لها ، وهى كلها أمور بالمؤكد ليست خافية على النظام القائم، بقدر ما تتطلب منه التعاطي معها، والاستفادة من حالة الزخم الثوري والشعبي، خاصة وأن الظهير الشعبي الداعم للنظام لم يتحرك بعد، بعدما استنفذت قوى المعارضة كل وسائلها في إسقاط النظام. وهنا تخرج الثورة المضادة عن كونها معارضة، إلى ما هو أوسع ، وهو إجهاض الثورة، إن لم يكن إسقاط الدولة.