استعمال مكبرات الصوت في الأذان
9 محرم 1436
د. نايف بن جمعان الجريدان

الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
فمما لا شك فيه أن الأذان يترتب عليه الإعلام بدخول أوقات الصلوات المفروضة، كما يترتب على ذلك جواز الإفطار المبني على الإعلام بغروب الشمس ودخول وقت المغرب، أو لزوم الامساك في صيام رمضان المبني على الإعلام بطلوع الفجر الصادق ودخول وقت الفجر.
ولما كانت المساجد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وما بعده من الأزمنة صغيرة المساحة، وأعداد الناس قليلة، وفي المساكن قلة وتقارب، سهل مع ذلك سماع الأذان، وكذا القراءة، والتكبيرات، والخطب، وغير ذلك، ولكن مع تطور أساليب الحاجة إلى إسماع الأذان، ومع اتساع المساجد وكبر مساحتها نشأت الحاجة إلى إسماع المصلين القراءة والتكبيرات والخطب.
فجاء اختراع مكبرات الصوت في العقد الثاني من القرن العشرين الميلادي(1)، وإذا كان اختراع مكبر الصوت من الأمور الحديثة المعاصرة فإن استعماله يعتبر من الأمور المستجدة، وخاصة في البلاد الإسلامية.
ونجد أنه يُثار بين الفينة والأخرى الحديث عن استعمال مكبرات الصوت الخارجية في المساجد وما مدى مشروعية إذاعة الصلوات والقراءة والدعاء فيها خارج المسجد؟ وهل من المشروع استعمال مكبرات الصوت الخارجية لإسماع الناس في بيوتهم القراءة والذكر؟ أم إن المصلحة في قصر الصوت على من كان داخل المسجد؟
ولعل استعمال مكبرات الصوت يدخل في قاعدة المصالح المرسلة التي يجب ضبطها وعدم التوسع فيها من جانب كما لا يبالغ في إغفالها والمنع منها على الإطلاق من جانب آخر ولعل –أيضًا- استعمالها يدور على قاعدة مراعاة المصالح ودرء المفاسد.
قال الشيخ محمد بن عثيمين: "مكبِرات الصَّوت من نعمة الله؛ لأنَّها تزيد صوت المؤذِّن قوَّة وحُسناً، ولا محذور فيها شرعاً، فإذا كان كذلك وكانت وسيلة لأمر مطلوب شرعي، فللوسائل أحكام المقاصد. ولهذا أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم العبَّاس بن عبد المطلب أن ينادي يوم حنين: "أين أصحابُ السَّمُرَة"(2)؛ لقوَّةِ صَوته.
فدلَّ على أن ما يُطلبُ فيه قوَّةُ الصَّوت ينبغي أن يُختار فيه ما يكون أبلغ في تأديَة الصَّوت"(3). أ.هـ.
-وفي نظري- أن هناك فرق بين الأذان وغيره كالإقامة، والصلاة، والقراءة، والدعاء، والمواعظ، ونحوها، فكما هو معلوم أن الغاية من الآذان هي إعلام الناس بدخول وقت الصلاة ودعوتهم لحضورها فالمصلحة حينئذ في استعمال المكبرات الخارجية؛ لأن الناس حينها يكونون خارج المسجد في بيوتهم وأسواقهم وأعمالهم، بينما الغاية من الإقامة والصلاة والقراءة ونحوها هي إسماع المأمومين خلف الإمام وهم موجودون حينها داخل المسجد فالمصلحة حينئذ تكون بالاقتصار على المكبرات الداخلية فحسب دون المكبرات الخارجية.
وهذا التأصيل يمثل الرأي الوسط في المسألة بين من سيمنع من استعمال مكبرات الصوت الخارجية في المساجد مطلقًا حتى في الآذان وبين من سيقول بجواز ذلك مطلقًا حتى في القراءة والدعاء ونحوها، وهذا الذي أختاره وذلك لما يأتي:
1) أن الأذان بواسطة مكبرات الصوت لا حرج فيه لأنه وسيلة لإيصال الأذان إلى السامعين والوسائل لها أحكام المقاصد ، فرفع المؤذن صوته وتبليغه للناس أمرٌ مقصودٌ مطلوب، وما كان وسيلة إلى هذا المقصد فهو مطلوبٌ أيضاً.
2) أن استعمال مكبر الصوت في الأذان وغيره عسر استغناء الناس عنه حتى "عمت به البلوى" وشاع علمهم بذلك وانتشر، وأفتى بعض العلماء المعاصرين بجواز استعمال مكبرات الصوت في الأذان وغيره(4)، وسكت الباقون مع الجزم باطلاعهم على العمل بذلك، وغلبة الظن باطلاعهم على فتوى الباقين، فلما سكتوا ولم ينكروا كان -في نظري- إجماعًا على جواز استعمال مكبرات الصوت في الأذان وغيره.
3) ثم إنه لما كان استعمال الأسلحة القوية العصرية والعناية بها داخل في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ} (5)، واستعمال الوقايات والتحصينات عن الأسلحة الفتاكة داخلٌ في قوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (6)، والقدرة على المراكب البحرية والجوية والهوائية داخل في قول الله تباك وتعالى{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (7)، وجميع ذلك وغيره داخل في الأوامر بأخذ جميع وسائل القوة والجهاد ، فكذلك إيصال الأصوات والمقالات النافعة إلى الأمكنة البعيدة من برقياتٍ وتليفونات وغيرها داخلٌ في أمر الله ورسوله بتبليغ الحقِّ إلى الخلق ، فإن إيصال الحقِّ والكلام النافع بالوسائل المتنوعة من نعم الله، وترقية الصنائع والمخترعات لتحصيل المصالح الدينية والدنيوية من الجهاد في سبيل الله(8).
4) القاعدة الشرعية التي يذكرها العلماء في أن الأصل –والذي هو الجواز- في الأشياء الإباحة حتى يرد ما ينقل ذلك الأصل؛ فلما لم يُنقل عن هذا الأصل فيبقى على الجواز.
5) من المتقرر في قواعد الفقه أن الحكم يتغير باختلاف العمل، حيث كان يتم إسماع الأذان وغيره للناس مباشرة بمجرد رفع الصوت، ولم تكن تلك الآلآت في زمن التشريع والأزمان اللاحقة، واستمر عمل المسلمين بدونها، ومع ظهور هذه الآلة في العصر الحديث وجدت الحاجة إلى استعمالها؛ لاتساع المساجد وكثرة المصلين، واتساع العمران مما قد يصعب معه إسماع الأذان بدون استعمال هذه الآلة، ولهذا عسر الاستغناء عن استعمال مكبرات الصوت في تلك العبادة في هذا العصر، حتى "عمت به البلوى" وأصبح عادةً وعُرفًا، ولهذا فإن الحكم الشرعي هنا يدور مع مناطه(9)، حيث إن العمل لعموم البلوى هنا ليس حكمًا شرعيًا، ولكن تعلق به الحكم الشرعي، حيث يعتبر مناطًا للحكم الشرعي الذي هو إبلاغ صوت المؤذن والحكم هنا لم يختلف، ولم يتغير بل هو واحد، ولكن مناطه هو الذي تغير، حيث كانت تُؤدى تلك العبادة بوسيلة معينة في الأزمان الماضية، ثم تغيرت هذه الوسيلة في هذا الزمن. واعتبار العمل "بما تعم به البلوى" هنا هو اعتبارٌ لوسيلة أُحدثت لغايات ومقاصد مشروعة.
ولذلك فقد جاءت فتاوى كثير من العلماء المتأخرين موافقة لذلك ومبينة على تلك الاعتبارات(10).

الخلاصة:
جواز استعمال مكبرات الصوت في الأذان، أما غيره كالصلاة، والقراءة، والدعاء، والمواعظ، والدروس، والمحاضرات، ونحوها؛ فإن مرد الأمر في ذلك إلى تقدير المصالح والمفاسد، المترتبة على ذلك، فإن كانت المصلحة الاقتصار على المكبرات الداخلية دون المكبرات الخارجية، فينبغي فعل ذلك وعدم الخوض والجدل والخلاف والفرقة في مثل هذه المسائل.

---------
(1) انظر مجلة الفيصل، في عددها رقم (137)، عام 1408هـ - 1988م، وهي مجلة ثقافية تصدر كل شهرين عن دار الفيصل الثقافية، ص (52).
(2) أخرجه مسلم، في كتاب الجهاد، باب في غزوة حنين (3/1398)، رقم (76)، والسمرة هي الشجرة التي بايع بعض الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم تحتها بيعة الرضوان ومعناه ناد أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية، انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم للنووي (12/115).
(3) الشرح الممتع (2/46).
(4) انظر مجلة الأزهر، الجزء السادس، المجلد الخامس والعشرون، جمادى الآخرة، عام 1373هـ - 1954م فبراير، وهي مجلة شهرية تصدر عن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ص (714)، والمجلة العربية، العدد (121)، لعام 1408هـ - 1987م، مجلة شهرية ثقافية تصدر عن المملكة العربية السعودية، ص (12)، ومجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد الرابع، عام 1410هـ، وهي مجلة محكمة متخصصة في الفقه الإسلامي تصدر عن المملكة العربية السعودية، ص (147-148)، انظرها ففيها فتاوى قيمة.
(5) الآية رقم (60)، من سورة الأنفال.
(6) الآية (102)، من سورة النساء.
(7) الآية (98)، من سورة آل عمران.
(8) انظر مجلة الأزهر، الجزء السادس، المجلد الخامس والعشرون، جمادى الآخرة، عام 1373هـ - 1954م فبراير، ص (714)، والمجلة العربية، العدد (121)، لعام 1408هـ - 1987م، ص (12)، ومجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد الرابع، عام 1410هـ، ص (147-148).
(9) المناط من أناط الشيء إناطة ومناطًا، والمناط: اسم لما يعلق عليه الشيء، ولما كانت العلة تعلق بها الأحكام سميت مناط الحكم، فمناط الحكم عند الأصوليّين: علّته وسببه. وتحقيق المناط عند الأصوليّين: هو النّظر والاجتهاد في معرفة وجود العلّة في آحاد الصّور، بعد معرفة تلك العلّة بنصّ أو إجماع أو استنباط، فإثبات وجود العلّة في مسألة معيّنة بالنّظر والاجتهاد هو تحقيق المناط. انظر: الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول، لعلي بن عبد الكافي السبكي، تحقيق: جماعة من العلماء، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1404هـ، (3/82)، و أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل، لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق : القاضي حسين بن أحمد السياغي و الدكتور حسن محمد مقبولي الأهدل، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1986م، (1/197).
(10) انظر المراجع السابقة، وكذا كتاب ثلاث رسائل فقهية، لمحمد بن عبد الله بن سبيل، الطبعة الأولى، عام: 1417هـ - 1996م، ص (159-160)، بتصرف.